من عقلاء المجانين ، وأخوه من الموقرين له والمتأدبين

 
 
 
بقلم / د. خلدون عبد العزيز مخلوطة
 
 
استضافة سيئة من عصابات إجرامية ، في أوائل الثمانينات في أيام عرفت بالأيام السبع، مُنع فيه التجول في حماة الأبية .
في أحد تلكم الأيام وقبيل مغيب الشمس كان متوجها وأخوه إلى صلاة المغرب ليؤذن ويصلي بالناس إماما ، وإذا بسيارة زيل ترصدهم عند مفترق طريق يؤدي للمسجد، وإذا بهم كالوحوش الضارية تسرع على فريستها ، وبعد تعذيب وتنكيل ، وسؤال وجواب ، وتحقيق وتنديد ، وكانت جريمة كبرى عندما اكتشفوا سبب الخروج، وهل هناك جريمة أعظم لديهم من مسجد وصلاة ، ولحية وقرآن، ثم أُطلق سراحهم ليعودوا إلى البيت، وفي صباح اليوم الثاني بعد الفجر وإذا بالحي قد طُوق ، وأشباه الرجال يحاصرونه يعيثون فيه الفساد ، ويعتدون على الأهالي ، يبحثون عن شاب ملتح وأخيه، ثم استطاعوا الوصول إليهما، وما أن أخرجوهما من البيت ، وعلى مسمع أبيهما وأمهما وإذا بنيران البنادق تطلق فوقهما ، فظن الأب المسكين أن ولديه قد قتلا ، فخرج ينظر ويبحث في الأرض عن آثار دماء ، أو بعض أشلاء .
اقتيد الأخوان مع مجموعة كريمة من أبناء الحي، قُبض عليهم بسببهما لأنهم لم يرشدوهم إلى هذين الشابين، ومن هؤلاء: أخوان من الجيران ، الكبير شبه مجنون في كلامه ومشيته، والصغير لم يتعد عمره الثالثة عشر، وأثناء السير لم تطاوعهم نفوسهم إلا أن ينكلوا بمن يجدونه في الطريق، وبعد الوصول إلى معسكرات الشرذمة المجرمة ، وبعد التحقيق وكشف الهوية الشخصية تبين براءتهما من كل شيء ، ولكن هذا لا يكفي لإطلاق سراحهما ومن معهما ، ثم بدأت مسرحيات التعذيب بصنوفه المختلفة، وأفانينه العجيبة .
ومن تلكم الأساليب أن يوضع كل أخوين مقابل بعضهما البعض، ويطلب منهما أن يضرب أحدهما وجه الآخر بأقصى قوة ، وإلا انهالوا عليهما بالضرب بالبنادق والأقدام ، وبدأت الكفوف تسمع لها الرنين، والمفاجأة العجيبة أن الشاب الصغير امتنع أشد الامتناع عن ضرب أخيه الكبير المجنون ، وكلما انهالوا عليه ضربا كلما ازداد إصرارا ، وهو يخاطبهم بكل جرأة وشجاعة: (هذا أخي أكبر مني والله لو قتلتموني لا أرفع يدي عليه)، فبهر الجميع بقمة أدبه وتوقيره لأخيه ، وصبره على الأذى والعذاب لأجله، وعندما لم يجدوا فائدة من ذلك عكسوا طريقة التعذيب فوضعوا الشاب الملتحي مع الرجل المجنون ، وأخاه مع الشاب الصغير، ويا لهول ما ذاقه من كفوف كالصاعقة تنهال عليه من ذلك المهبول المجنون ، حتى كاد أن يغمى عليه من شدتها ومتانتها ، وكلما أعطاه إشارة خفية يطلب منه التخفيف من شدة الكفوف ، ولكنه يزداد ويزداد ، ثم ينادي هذا العاقل المجنون بأعلى صوته أمام تلك الشرذمة الحاقدة: (اضربني أنت جاري وابن حارتي ، فهذا أشرف لي من أن يضربني هؤلاء ) ، ثم يقرب له خده ، ويدنيه ويقول : (اضرب ، اضرب، ضربك أحب لي من ضرب هؤلاء)، فأصبح الشاب الملتحي في حيرة من أمره ، أيبكي مما يشاهده من هؤلاء االمجرمين الذين لا يعرفون رحمة حتى مع المجانين، أم يسر ويفتخر بهذا الجار الكريم الذي في ظاهره مجنون مهبول ، وهو في حقيقته عاقل غيور كريم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين