من ذاق عرف

 

عبد العظيم عرنوس
هيهات هيهات لمن هبت على روحه أنسام الحرية ، واستنشق أريجها ، وسرت في شرايينه دماؤها ، وتضمخت شغاف قلبه بعبيرها ، هيهات هيهات لمن تشبعت أقطار نفسه بقوة الحرية الدافق ، ونظر إليها بقلبه نظرة رامق وامق ، ولاح لعينيه شعاعها الرائق ، بعد ليل طويل ، وأمل ضئيل ، وظلم وبيل ، واحتباس ثقيل ، بعد أن برحت الآلام ، وسيطر اللئام ، واستجار من العبودية الأنام ، بعد الذل اللاحب ، والعذاب الناصب ، وانتهاك الحرمات بدون مراقب .. هيهات هيهات لمن ذاق طعم الحرية حلو المذاق ، أن يستسيغ مرارة طعم العبودية مر المذاق ، فمن ذاق عرف ، ومن عرف اغترف .
من هنا ندرك سر الزخم الهائل كأمواج البحار ، وتظاهر السوريين السلمي الضخم كالسيل الهدار ، وتقاطر الأحرار لساحات الحرية كالمطر المدرار ، يقتلعون من طرقهم أشواك الاستبداد كالإعصار ، وتصدح حناجرهم بإسقاط سفاح الشام بشار ، بجؤار متبتل قانت يناجي الرب الجبار يمتزج بسجود في جوف الليل بدموع حرَّى بالأسحار .
ذاك طعم الحرية يهون في سبيله كل ألم ، والقلب عندما يتحرر لا يطيق أن يعيش لحظة عبودية واحدة ؛ فالحرية حرية القلب ، والعبودية عبودية القلب ؛ كما قال ابن تيمية رحمه الله . والإنسان عندما يسلك في سلك العبودية لله فإنه قد ملك حريته ، قال الجنيد : إذا كنت له وحده عبدا كنت مما دونه حرا ؛ بل إن العبودية للعبيد تمسخ كرامة الإنسان ، وتجعل عبوديته لله كاذبة ولو أقسم بالله جهد أيمانه أنه عبد لله ، وهو ما يعبر عنه الفضيل رحمه الله : والله ما صدق الله في عبوديته من لأحد من المخلوقين عليه ربانية .
    إن الهوان حمار البيت يألفه ** والحر ينكره والفيل والأسد
   ولا يقيم بدار الذل يألفها ** إلا الذليلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ** وذا يشج فما يأوي له أحد
الخسف : الذل – يأوي : يرق
لقد ذاق طعم الحرية بلال ، فلم يبال بعدها بما صبه عليه المشركون من وبال ، واستهان بما وضع على صدره من صخور ثقال ، واعتز بعبوديته لله الصمد ، فلم يفتر لسانه عن التغني بأحد أحد
وذاق طعم الحرية من قبله سحرة فرعون ، فاستعانوا بالله فكان لهم نعم العون ، واشتد عليهم من فرعون التهديد والوعيد ، فطلبوا الغوث من ربهم ذي العرش المجيد ، والبطش الشديد ، فأغرق الله فرعون وجنوده وقال : إني فعال لما أريد ، ونادوا من قبل يا مليك يا مقتدر ، فجاءت النجدة على أمر قد قدر ، وجعلهم الله عبرة لمن يعتبر .
ويأبي شعب سوريا الأبي الرجوع إلى حظيرة العبودية بعد ذواق الحرية ، فأصبحت في اعتقادهم نظير الكفر ؛ كما قال الداعية الأريب الأديب عصام العطار متع الله ناظرينا وناظريه برؤية النصر القريب
عجبت من مؤمن يرضى الهوان وما ** يرضاه إلا الألى بالله قد كفروا
تراه يحتج بالأقدار معتذرا ** والمؤمن الحق لو يدري هو القدر
قوم يطلون والدنيا بها ظمأ ** والدرب ملتبس والليل معتكر
أقوالهم شُعَل أفعالهم غرر ** أخلاقهم مُثُل أخبارهم سمر
بهم يقوَّم ما في الأرض من عوج** والحق والعدل والإيمان ينتصر
 
وهذا أوان الحرية تصنعها أيدي الأحرار ، لتستأصل رقاب الطغاة الأشرار بكل سيف بتار ، ويُقطع دابر القوم الظلمين بقدرة القهار
لقد انتهت بدعة الذل .. وأدبرت بدعة الضلالة ، وأشرقت شمس الحرية ، وعرف الإنسان أنه إنسان كريم يأبى العبودية للبشر ، كما قال الشاعر بدوي الجبل :
بدعة الذل حين لا يذكر الإنسان في الشام أنه إنسان
بدعة الذل أن يصاغ من الفرد إله مهيمن ديان 
 
 
 


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين