مقاربة منهجية أصولية في معيار قبول الحديث المشكل

(قبل البدء؛ لا شك أن الموضوع فيه شيء من الصعوبة، ومن أراد القراءة فليتصبر، والمسألة محل البحث مسألة تخصصية، ومن أراد فهمها فليس أمامه إلا بذل جهد كبير لأجل ذلك)

تحتدم المعركة بين الحين والآخر حول تضعيف بعض أحاديث الصحيح، وتتجدد التجاذبات العنيفة بين المختلفين؛ لحساسية هذا المسألة، ولما يترتب عليها من فتح أبواب تصعب السيطرة على مدخلاتها.

لا يتسع المجال للاستغراق في المقدمات على الرغم من أهميتها، ولعل الله ييسر كتابة دراسة متوسطة أضع فيها مقاربة منهجية أصولية للمساهمة في وضع معيار منهجي وأصولي للتعامل مع الأحاديث التي تحمل معاني يستشكلها بعض النُّظار.

ويجيب هؤلاء المستشكلون بأن محل استشكالنا ليس هو السند ولا عمل لنا فيه؛ إنما نستشكل متن الحديث ومعناه!

والكلام هنا ليس عن الاعتراض على الحديث بالمُعارِض النقلي من القرآن والسنة؛ فلهذا مبحث خاص.

إنما الكلام عن الاستشكالات "العقلية" الموردة على هذا النمط من الأحاديث.

وسأحاول الجواب في هذا المقال عن السؤال المنهجي:

هل هناك ضابط يحكم قبول الحديث أو رده من حيث المعنى والمضمون؟

أو الأمر متعلق بمجرد النظر وما يألفه الناظر أو يستوحشه من المعاني الواردة فيه؟

لا شك ابتداء أن الكلام إنما هو في الحديث الذي حكم عليه نقادُ الحديث الكبار بالصحة، أما ما ضعَّفوه بسبب يتعلق بسنده أو متنه فلا كلام فيه؛ إذ لا مشكلة بينهم في عدم صلاحيته للاحتجاج في مواطن الاحتجاج.

وأحب أن أعرض الموضوع على شكل نقاط- كما العادة- لتسهيل حصره وضمان تسلسله في ذهن القارئ.

أولا:

لكل علم رجاله؛ الذين تمحضت دراستهم فيه، وقضوا أعمارهم في رحابه، ومن البديهيات أن يؤخذ كل علم من أصحابه، انظر إلى مسلك الإمام الشافعي رحمه الله فيما رواه القاضي عياض عنه في كتابه ترتيب المدارك في ترجمة عبد الرحمن بن مهدي: كان يجالس الشافعي ويصحبه مع أحمد بن حنبل، فكان الشافعي يقول لهما: ما صح عندكما من الحديث فأعلماني لأتبعه، لأنكما أعلم مني بالحديث. اهـ.

سلّم الفقيه للمحدثين فيما يتفقون عليه في علم الحديث، فإذا صح الحديث عندهم نظر الفقيه في وجه الاستدلال به.

ومن المعلوم أن عمل المحدثين لا يرتبط بدراسة الأسانيد فحسب؛ بل يشمل كذلك دراسة المتون والنظر في عللها.

وعليه؛ فيمكن أن نصوغ ههنا قاعدة منهجية:

- إذا اتفق نقاد الحديث على تصحيحٍ أو تضعيفٍ فلا سبيل إلى قبول أي كلامٍ مخالف لكلامهم.

- وإذا اختلفوا كان غيرهم في سعة، ووسِعَه أن يختار من أقوالهم أوثقَها في نفسه.

ثانيا:

تُثار مشكلة في الأوساط العلمية حول أيهما نقدم: العقل أو النقل، وتنتصر طائفة لتقديم النقل مطلقا، وأخرى لتقديم العقل مطلقا.

ولم أقرأ أجود من كلام الإمام ابن تيمية في موسوعته الفريدة: "درء تعارض العقل والنقل"؛ إذ ينتهي إلى أن كلَّ تقديمٍ مطلق لكلٍّ من العقل أو النقل؛ تقديمٌ يفتقر إلى الدقة، فإن أدلة النقل ليست جميعا على مقدار واحد من قوة الدلالة، وكذلك أدلة العقل:

فبعض ذلك كله: قطعي، وبعض آخر ظني، وكلها من الأدلة المعتبرة؛ فأدلة العقل معتبرة في الشرع كما أدلة النقل.

وعند تعارض الأدلة يمكننا أن نتصور الحالات الآتية:

١. تعارض دليل ظني مع دليل قطعي؛ فنقدم القطعي بغض النظر عن كونه عقليا أو نقليا.

٢. تعارض دليلين ظنيين؛ سواء أكانا عقليين أو نقليين أو عقليا ونقليا، فإن حصل نظرنا في وزن كل من الدليلين؛

- فإن رجح أحدهما قُدِّم على الآخر؛ نقليا كان أو عقليا.

- وإن استويا؛ فالأدلة تنتصر لتقديم دليل النقل على دليل العقل.

ويمكنك مراجعة الكتاب الذي ذكرت لك لمزيد من التفاصيل.

٣. تعارض دليلين قطعيين؛ سواء أكانا عقليين أو نقليين أو أحدهما عقليا والآخر نقليا:

وهذه الحالة ممنوعة؛ بمعنى: أنها لا تقع البتة على التحقيق؛ إذ لا يمكن أن يتعارض دليلان قطعيان؛ لكون التعارض علامة فساد أحد المتعارضَين؛ ولا مجال هنا لفساد أحدهما؛ لاعتبار كونهما قطعيين!

ولذلك:

ليس في الشرع بل ولا حتى في العقل دليلان قطعيان متعارضان.

وعلى ذلك:

لا يجوز رد حديث ثبتت صحته دون معارضة حقيقية لدليل أقوى من الشرع أو من العقل.

أما خارطة الطريق التي يسلكها الباحث في تحديد ما إذا كان العقل معارضا حقا للدليل النقلي أو لا فبيانها في النقطة الثالثة.

ثالثا:

وجدت أن القاعدة التي قعدها بعض أهل العلم في ضبط معيار القبول العقلي للنقل قاعدة مفيدة ضابطة، ومفادها:

أن العقلاء قد اتفقوا على تقسيم الأشياء إلى ثلاثة أقسام:

١. الممكن أو جائز الوجود:

هو ما يقبل العقل إمكان وجوده وعدمه، وهو يشمل كل موجود يمكن أن يقبل العقل عدمه؛ كسائر الموجودات، وكل معدوم يمكن أن يقبل العقل وجوده؛ كسائر المعدومات.

ويتضح هذا باستكمال الكلام في القسمين التاليين.

٢. المستحيل:

هو ما يوجب العقل عدمه، أي: يستحيل حصوله، وله صور؛ من شهيرها: اجتماع النقيضين؛ ككون فلان موجودا وغير موجود في المكان الواحد والزمان الواحد، وكوجود دائرة مربعة!

وكذا:

ادعاء أن الفعل وجد من غير فاعل، كما إذا قيل: هذا الكون لم يخلقه أحد أو وُجد وحده من غير موجد.

وهذا المستحيل العقلي، وثمة أنواع أخرى للمستحيل؛ لا مدخل لها في كلامنا هنا.

٣. الواجب: ما يوجب العقل وجوده ولا يجيز إمكان عدمه، وليس ثمة واجباً وجوده إلا مَن خلق الوجود؛ إذ يمكنك أن تتصور عدم كل شيء تراه عينك، لكن لا تستطيع وأنت ترى هذا الكون العظيم المحكم إلا أن توجب وجود خالق له أو موجد.

ومضمون النقل بالنسبة إلى هذه الأقسام لا يعدوها ولا يخرج عنها:

١. إذا خالف النقل واجب الوجود: رُد النقل، ولم يلتفت إليه.

(وهذا حالة مفترضة طبعا وليست واقعة)

٢. إذا خالف النقل مقتضى الاستحالة؛ كأن أثبت وجود ما يستحيل عقلاً وجوده فإنه يُردُّ ولا يُلتفت إليه.

(تنبه إلى معنى "المستحيل" في الكلام السابق)

٣. إذا أثبت النقل ما كان من الممكنات، وكان النقل صحيحا وجب قبوله، ولم يَجُز رده.

ولا أعلم أن حديثا صحيحا جاء ينفي وجود واجب، ولا إثبات مستحيل.

وعليه؛

فما جاء في الحديث الصحيح لا ناقض له من دليل عقلي أصح أو نقلي أصح: وجب قبوله والذهاب إلى مقتضاه.

وهذا التقعيد كما ترى مختصرُ تقعيد رائد المدرسة الكلامية من المفسرين والأصوليين: الفخر الرازي.

كلمة في المنهج الذوقي

ما سلف من الكلام هو مقتضى المنهج العقلي بتقعيد أبرز رواده، لكن الساحة العلمية قد نبت فيها منهجٌ أقل انضباطاً فيما يتعلق بضوابط المنهج العقلي الصارمة؛ خلا فيه هذا المنهج من الضوابط التي يُمكن بوضوحٍ الاحتكامُ إليها في قبول النصوص الحديثية وردها.

يعتمد هذا المنهج إذا حققنا واستبعدنا الاحتمالات الضعيفة عند دراسته على الذوق الذي صنعه طول النظر في نصوص الشريعة وروحها.

يعتبر الشيخ محمد الغزالي صاحب الجهود المميزة والكتب المشتهرة أحد أبرز العلماء القريبين الذين سلكوا هذا الاتجاه وراج على أيديهم.

لم يكن الشيخ طبعا وحيدا في هذا الطريق، بل سبقه أقوام ولحقه آخرون.

من أوائل الأسماء المؤثرة من سالكي هذا المنهج في العصر الحديث:

الشيخ محمد عبده ومدرسته المعروفة؛ التي سميت ب "المدرسة العقلية"!

والحق:

- أن عددا من رواد هذه المدرسة هم من أكابر العلماء، وتقييم تجربة منهجهم لا ينتقص من أقدارهم العلمية؛ بل هو تقويم لاعوجاج منهجي انبنى على تأول ظن صاحبه أنه قد أصاب؛ وهو في الحقيقة مخطئ.

- أن هذه المدرسة قد انتسبت إلى العقل، والحق أنها لم تعتمد عليه اعتمادا حقيقيا؛ بل اتجهت نحو الذوق "العلمي" في استحسان معنى أو استقباحه، واستقراب معنى واستبعاد آخر، واستئلاف فكرة واستيحاش أخرى.

- إشكالية هذه المدرسة تظهر في "انعدام" الضوابط التي ينبني عليها الحكم على النص الحديثي بالقبول أو الرد، والاتجاه إلى الذوق الشخصي للعالم ليكون الحكَم عليه.

والمشكلة التي أنشأتها منهجية هذه المدرسة أو ساعدت على إنشائها:

فتح الباب للتلاعب بالنصوص الشرعية أمام أهواء العابثين.

نعم؛ كان الكثيرون من رواد المدرسة العقلية أصحاب منهج سوي بالعموم، وأصحاب خدمات كبيرة للدعوة الإسلامية، وإسهامات علمية مميزة، لكن:

إزالة قيود النظر، وإطلاق العنان للذوق المجرد إنْ في فهم النصوص أو في قبولها وردها: فَتَح الباب للعابثين أن يدلوا هم كذلك بدلائهم، وأن يقبلوا ويردوا من النصوص ما يشاؤون، وأن يحرفوا دلالات النصوص على حسب أهوائهم.. طالما لا داعي للقيود التي تحد الشطط وتلجم الجموح!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين