
نحن المسلمين ـ في هذه الفترة من تاريخنا ـ نحتاج إلى استجلاء صور من أدب القوة، وفن المقاومة، و شرف الحفاظ على الدين والعرض، والتشبث بأداء الواجب إلى آخر رمق....!
والقرآن الكريم مصدر لدروس نافعة في هذا المجال...
قرأت هذا الدعاء الشاكر يصدر من فؤاد سيدنا موسى عليه السلام: [قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ] {القصص:17} ثم وقفت عنده أتأمل في دلالته القريبة والبعيدة، وما سبق هذا الدعاء أو لحقه من جهاد للمبطلين، ومساندة للمضعفين، ثم أيقنت أن علو الهمة ميزة تختص بها النفوس الكبيرة، وليس خلقاً يستطيعه سواد الناس...
وعندما يعتنق الرجل مبدأ كريماً ثم يسير في الحياة على ضوئه تلقاه عقبات جمة، وتعترضه صعاب كثيرة فإن كان واهن العزم قريب القاع فتَّ ذلك في عضده، وثناه عن غرضه، أما إن كان عالي الهمة، صلب الإرادة فإن احتكام الشدائد بنفسه الكيرة لا يزيده إلا رغبة في الانطلاق وأملاً في الوصول...
أجل قد تتكن بعض النفوس من عناصر هشَّة، سرعان تنكسر عند أول صدام، ثم تؤثر الانسحاب والتواري...
وقد يتكون بعضها من عناصر ذات بأس واقتدار، إذا التقت بالأحداث العاتية قدحت الشرور، وتألق جوهرها على مس الشدائد...
ومن الغلط الكبير حسبان الحياة امتحاناً واحداً، إذا اجتزناه بنجاح لم نتعرض لأمثاله بعد، كلا، إن الحياة جملة اختبارات متعاقبة، ما يكاد المرء يخلص من عقبة إلا ليواجه عقبة أخرى مثلها أو أشد منها...
والبطولة الصحيحة ألا يفقد المرء قدرته على النضال ما بقيت فيه عين تطرف..
أعجبني في تاريخ الأسناد العقاد موقفه يوم خرج من السجن بعدما قضى فيه تسعة أشهر، لأنه تحدى النظام الملكي، وانضم إلى الأمة في مطالبتها بالدستور، ومحافظتها على حقوقها... لقد خرج يقول من قصيدة حسنة:
وكنت جنين السجن تسعة أشهر=فها أنذا في ساحة الخلد أولد
عداتي وصحبي لا اختلاف عليهما=سيعهدني كل كما كان يعهد!
إن الرجل الحل لم يهن للضربة التي نزلت به، ولم يضرع لها ويقول كما قال شاعر آخر واهي البناء:
وحملت زفرات الضحى فأطقتها=ومالي بزفرات العشى يدان!!
إن بعض الناس قد يسأم تكاليف الإيمان، ويستغلي نفقات الجهاد فينكص على عقبيه بعد أن سار في الطريق خطوات، وقطع منه شوطاً أو أشواطاً...
ومن أيام سمعت قدماً من هؤلاء يقول: لقد مضى على ضياع فلسطين عشرون عاماً، وحاولنا استعادتها فعجزنا، فماذا نصنع؟
وشعرت باليأس يتساقط من كلماته المنكرة فقلت له: إن اليهود تحملوا تشريد ثلاثة آلاف عام ولم ينسوا مزاعمهم الباطلة في الأرض المقدسة، فهل نضطرب نحن لمتاعب عشرين أو تسعين عاماً، ونفرط في حقوقنا؟ ذلك والله ما لا يكون!!
إن الركون إلى الراحة بعد جهاد قصير أو طويل آفة خطيرة، ترجع إلى سوء التربية وضعف التوجيه، وما أحوج المسلمين إلى دعاة ومدرسين يصبون الأجيال الوافدة في قوالب الإيمان، ويبذرون في سلوكهم معاني المثابرة وطول الكفاح...
وقد حمانا القرآن الكريم علل الضعف والخمول بما يسرد على أسماعنا من قصص مثيرة...
إنه أكد لنا أن ملاقاة العنت في زحام الحياة حقيقة لابدَّ أن يستعد لها لامجاهدون، والا يحاولوا الزيغ منها، قال تعالى:[وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا] {الفرقان:20}.
ألا ما أكثر صور هذه الفتنة المفروضة على الحياة والأحياء، وما اسرع تصديها لرجال العقائد وحملة الدعوات، لكنهم يطوونها واحدة بعد أخرى، وكأنما ترتفع أقدارهم بمقدار ما يتراكم تحت أقدامهم من سهام تكسرت، ومحت تطامنت واستسلمت..
إن العظمة الإنسانية لا تعر ف في الرخاء قدر ما تعرف في الشدة، والرجال الكبار هم الذين يملكون أنفسهم عند الردع، وتتحرك خصائصهم العليا عند التحدي والإنكار....
لما انهزم المسلمون في معركة حنين أول الأمر، وانكشفوا عن قائدهم العظيم فرأى نفسه في موقف محاط بالريبة والحرج، لم يكن لهذه الهزيمة أثر في الضعف أو التخاذل لدى النبي صلى الله عليه وسلم، بل صاح في ثقة ورسوخ
أنا النبي لا كذب=أنا ابن عبد المطلب
إنه في موقف التواضع وتطمين رجل يرتعش من مهابته ينسب نفسه لأمه فيقول: أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة!!...
أما هنا في مواجهة الشك والشماتة فإنه يملأ فمه، بوصفه وعمله، والمنصب الذي شرَّفه الله به، واختاره له...!
ومن هنا ثاب الناس إلى رشدهم، وجرف تيار الثقة والصدق المنبعث من قلب رسولهم كل إثارة للقلق، فجاء النصر والفتح....
لقد شرحنا كيف يثبت الإنسان لأول مخاطرة تعرض له، حتى إذا نجا من عواقبها قرر ألا يتعرض مرة أخرى لمثلها، ومر بذهنه المثل الذي يردده الجبناء من العوم ( ما كل مرة تسلم الجرة) ولكن شأن النفوس العظيمة أكبر من هذا، فالنجاة من الأخطار التي يتعرضون لها في سبيل مثلهم العليا لا تعلمهم الحرص على الحياة، ولا تثير فيهم غرائز التهيب والتوجس، بل تزيدهم وفاء لما يعتقدون...
كان موسى عليه الصلاة والسلام يكره الظلم والجبروت مثل أنبياء الله كلهم، وقد حملته الأقدار أن يحارب نوازع الإجرام التي خضع لها قومه حيناً من الدهر، حكى القرآن عنه أنه: [وَدَخَلَ المَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ] {القصص:15}.
ورأى موسى أن هذه العاطفة الحرة قد تأدت به إلى غير ما يبغي، وأنه ـ وهو الذي يحارب العدوان ـ قد زاد في الانتصاف لقومه، وخشي أن يكون قد تعرض بذلك لسخط ربه فهتف: [قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {القصص:16}.
فماذا كان من موسى بعد ظفره بالعفو الأعلى، كان يستطيع أن يقول: لا أعود لمثلها! ولكن هذه الكلمة لو قالها قد تفيد أنه تخلى عن مبادئه، و زهد في مساندة الضعفاء، ونكل عن مقاومة الطغاة، فآثر الا يقول هذه الكلمة، و فضل أن يجدد العهد على أن يظل حراً ينافح عن الأحرار، وعلى أن يظل ثائر المشاعر ضد الفساد والاستعلاء، ثم ترجم شكره للصفح الإلهي بهذه الكلمة: [قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ] {القصص:17}.
إن هذه الكلمة تتضح بما في قلب موسى من بغضاء للباطل، ومقت للعدوان، و رغبة أصيلة في حماية الجماعات البشرية من المستبدين بآرائهم، المفتأتين على غيرهم.
وما يصدر مثلها إلا من رجل اختير لتحرير العبيد، وهدم القداسات الزائفة!
وقد كان يستطيع إفراغ هذه المعاني في صيغة تدل على الاصرار والتشبث لولا أنه في مقدم الضراعة لربه، والاعتذار عما فرط منه...
ومن ثم اكتفى بتوثيق العهد على نفسه، في الصورة التي لا يمكن أن يكتنفها خطأ بمقاطعة المجرمين، والنفور من تأييدهم، وينتهي حدها الأعلى بتطهير الحياة منهم، وتخليص الشعوب من آصارهم.
أي أن كلمة: [قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ] تعني مراتب الجهاد كلها، من كراهيتهم إلى الخلاص منهم!!!
وهذا العهد كلف موسى الكثير، ولذلك جاء في الحديث الشريف أنه كلما بهظه الحمل وآلمه الكفاح قال: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان).
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد الثالث السنة 25 ذو القعدة 1390 يناير 1971
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول