مدرسةُ اللّيالي الأربع

 

 

بقلبٍ يخفقُ للُقياه ، وبعيون ترتقبُ خروجه من صالة " القادمون " وقفتُ انتظر قدومه الميمون ...

يطلّ أخيرا بوجهه السمح الممتلئ رضا وسكينة ، بلحيةٍ بيضاء كستْ وجهه الودود .

 

في طريقنا للفندق ، قُلت له ما يُقال عادة للقادم من سفر ، ولكنّي كنت أشعرُ بشعور غريب وأنا بجانبه . كيف لا وهو من الأساطير ، أسطورةٌ بجانبي .... حقّ لي أن تعتريني تلك المشاعر الغامضة !! . . .

سأحدثّكم عن هذا الرجل العظيم من خلال ما رأيته بعيني لا ما رُوي لي عنه ، إذ كان لي شرف مرافقته أربعُ أيام بلياليهن ّ .

 

منذ أن دعيناه ليُلقي ندوة للأطباء في كلّيتنا ، كان أوّل ما قاله لي : " إياكم أن تحجزوا لي في الدرجة الأولى " ، بل و رفض القدوم إلّا على حسابه الشخصي .

أثناء تنقلاتنا في السيارة كان الذكر والتهليل والتسبيحُ والإستغفار لا يُفارق لسانه البتّة ،

والتفت لي مرّة وقال :

" يا بُنيّ ، الأذكار لا تتركها أبدا أبدا ، فهي من أكثر الأشياء التي وجدتُ أثرها في حياتي ومسيرتي " .

سألته مرة : " ماذا تحبّ أن نأكل ؟ فأجاب : " آكل كل شيء إلا الطعام باهظ الثمن ، وقد حرّمتُ على نفسي أكل السمك مع أنّي أحبّه حبا شديدا ، والسبب أنها وجبة غالية الثمن في الغالب ، ولا أُدخلها بيتي أبداً " !!!

وقفنا مرّة عند صيدليّة كي نشتري له محلّي الشاي والمشروبات - إذ هو مريض سكّر - وعندما وجد سعرهُ يعلو عن السعر الذي اعتاد أن يجده - أغلى ب ? ريالات فقط - رفض أن يشتريه بل وأصر على أخذ أقلّ نوعيّة " !

أما عن مستلزماته الشخصية فالعجب كلّ العجب !!

لديه أقدم جهاز جّوال - نوكيا القديم - وقال لي بأنه لن يشتري غيره أبداً - لم يُغيّر عفش بيته منذ أن تزوّج . وحين يحتاج لثوبٍ فإنه يبحثُ عن أرخص الأنواع وأقلها جودة ، حتى قلمهُ الشخصيّ يختار القلم زهيد السعر ! ويقتني أرخص الأنواع من الأشياء الأساسية ، وحرمَ نفسه الكماليّات " .

بعد هذا كلّه ، قلتُ له يا دكتور : " أنت رجل كبيرٌ في السن ، ومقتدرٌ ماديّا ، لماذا تحرمُ نفسك كل هذه النعم التي منحك الله إيّاها ؟؟ " فكان جوابه بكل تواضع وهدوء وقناعة :

" إن ريالا واحدا ينقذ طفلا يوميا من الموت في أفريقيا ، وهذا الريال أحقّ به أولئك البشر منّي " .

إنه القامَة العظيمة ، والرقمُ الصعب : د.عبدالرحمن السميط - رحمه الله 

كان يرفض أن يساعدهُ أحدٌ في أي شأن خاصّ به ، ويقول المسلم أحقّ أن يخدم نفسه بنفسه ! مرة اقتربت لأساعده في الصعود للسيارة ، فغضب غضبا شديدا مني وقال : " لا تفعل ذلك مرة أخرى فضلا ، فأنا قادر على إعانة نفسي والقيام بها " .

هو بحقّ يعيشُ قضيّته ، تشرّبها بكامل جسده وفكره وروحه ، أعطاها كلّ ما يملك .

من كلماته التي لا أنساها :

" أكثرما يدفعني للبكاء عندما أقابل الذين دخلوا في الإسلام يبكون على آبائهم الذين ماتوا على غير الإسلام ، يصرخون فينا : أين كنتم ؟! ؟

وحين كان يُسأل عن إنجازاته كان يُجيب : "هذا كلام مو مهم , المهم ماذا تنجز أنت على أرض الواقع ".

 

حين يلتقي الإنسان بهذه القامات العظيمة والهمم السامقة التي اعتنقت مبدأً وحملت همًّا ومضت في سبيله تقطع المسافات البعيدة ، وتتجشم المشاق والصعاب ، وتبذل الغالي والنفيس ، ولا يلفتها عنه شيءٌ كائناً ما كان ولا تصيبها الحسرة على شيء يفوتها من أجله ؛ حين يلتقي بها فإنها تحدث في داخله اهتزازاً عنيفاً ، وتجعله يعيد النظر في المسافة بين الواقع والممكن على نطاقه الشخصي ، ويسعى حثيثا لتلمس أسباب تلك الحالة المشرقة الوهّاجة التي وصلوا إليها !.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين