ماتت الغالية

 

تتلعثم حروفي وتنقبض روحي..ويمتزج الحزن بين قلبي وأضلعي.. فأشعر بالألم في كل جسدي.. لموتك آهات وأوجاع لن تزول...ولن يمحوها الزمن... سكت صوتك الذي كان يترنم بأجمل التعابير.. وهاجر الطائر الذي كان يغرد دائما بصوت عذب (الله يرضى عنكم)..فلا نستطيع الحراك لعلنا نسمع من دعائك لنا المزيد والمزيد.. كلمات حطت رحالها... 

وفقدت المعاني سيدها , وفارقت السعادة أسبابها ... أغلق باب من أبواب الجنة.. كما أغلق سابقا الباب الأول..

ماتت أمي .. فحطت الرحمة أدواتها وارتحلت , انهدم السقف , وتمزق الثوب... لنجد علامات الألم مطبوعة على أجسادنا.. وقلوبنا..

ماتت أمي .. وتركت لي الحياة... ليلة عزاء طويلة , لو كنت أملك من عمري شيئا لأعطيت أمي ما يجعلني لا أفارقها ساعة , هي ابتسامة الزمن وإلياذة التاريخ , طبيبة نفسي , وروح روحي , ماتت المرأة التي علمتني الصبر..وسماحة النفس.. وطيب الأخلاق..

ماتت .. فأصبحت أحيا ببعض نفس وببعض روح . 

سبحان ربي الذي جعل من قلب الأم دنيا من خلقه هو , وأسكن فيها معان من سره هو . 

يد لا تعرف إلا العطاء , وقلب لا يعرف إلا الحب والصفح والغفران , ووجه لا يعرف إلا الإقبال والابتسام , سهولة كل صعب , ويسر كل عسير ... تخاف على مشاعرنا... نتلمس منها صفاء القلب والروح.. أي قلب تملكينه يا أمي.. قلب مخموم سليم.. قل من يملكه...

ماتت أمي .. فلم يعد بعدها قلب يضخ الحب والعفو بلا حساب , ولا صدر يحتوي فينفث عطر الأمن والأمان بلا مقابل ... هي المعنى الذي لا نستطيع ترجمته من رحمة خالصة ومن حب خالص ومن غفران خالص , لا يغيره كدر , ولا يبدله عقوق...

ملكت مفاتيح نفسي , فإذا ضحكت .. ضحكت الدنيا بأسرها , وإذا بكت .. بكى كل شيء..

ماتت سر أسراري , وترجمان كياني , العالم كله على صدر أمي , فإذا وضعت فيه رأسي كنت ملكا متوجا , أمسك بمفاتيح العالم بأسره ... 

ماتت .. فلم تعد الحياة حياة, تساوى العسل بالمر , والنور بالظلام , ما عدت أرى شيئاً ...صبرني الله على فراقك..يا غالية..

أي طعم للحياة بلا أمي ؟ الآن علمت يا أخي حين كنت تقول ..أمي فقط هي الأنثى الوحيدة التي أحب.. 

أين حرارة اليد التي كانت تدفع عني برد الهم وتنفض غبار النكد ؟ أين الوجه الذي كنت أقرأ فيه تاريخي وأيام عمري ؟ 

أين التي كانت حين تحتاج إلى ما يعجزها تتصل بي لأحمل معها بعض الهم.

لقد أدركت اليوم معنى الجنة تحت قدميك ...

فأي سائل هذا الذي ترضعه وليدها وفيه كل حاجته من الطعام والشراب والدواء والأمن والأمان وسحر الوصال والالتقاء في آن ؟ 

وأي عظمة وإعجاز في ذات الأم لتكون جنة بكل معالمها لأولادها , ويكون صدرها أعظم من سكنى القصور, وريحها أطيب من ريح المسك , وصوتها أحلى من مزامير الدنيا كلها . 

الأم .. ؟ يا إلهي , أي صغير في الأرض يجد كفايته من الروح إلا في الأم ؟ وأي رجل – ولو كان ملكا – تهدأ نفسه إلا بين يدي أمه ؟ لو قيس كل نعيم الدنيا بفقد الأم ما ساوى شيئا, ماتت أمي .. حقيقة يدركها عقلي, وتنكرها نفسي وروحي حتى ألقاها ....

انتهت أيامي من الأم, وبدأت أيامي من الزمن , بلا أم.. وسيأتي كل غد محجبا مرهوبا , إذ يأتي لي وحدي , ويأتي وأنا وحدي . 

لقد كُتبت على وجه كل فاقد لأمه عبارة ( رفقا بي )....

اللهم بلغ أمي مني السلام , واجزها عني خيرا , واجعل عملي الصالح في ميزان حسناتها, واهدها بهدية من عندك , اللهم قد سلمت لك الروح , وانقطعت الأسباب إلا سببا موصولا بك , فاللهم أكرم نزلها ووسع مدخلها واغسلها بالماء والثلج والبرد, واجمعني بأمي في مستقر رحمتك, في مقعد صدق عند مليك مقتدر...

نهى العاصي في رثاء أمها السيدة رمزية النعمة 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين