د. عبد الحكيم الأنيس
وأنا أتصفحُ عنوانات الكتب في إحدى مكتبات عمّان وقعَ نظري على كتابٍ عنوانُه: "الطب من الكتاب والسنة" للإمام موفق عبد اللطيف البغدادي فسارعتُ إلى اقتنائه لأهمية الموضوع, ولعظمة المؤلِّف الذي كان أحدَ عباقرة بغداد في القرنين السادس والسابع الهجريين ونبغائها.
عدتُ إلى بغداد وأنا سعيدٌ به أُمنّي النفسَ بفوائد نفيسة, وفرائد عالية, مما كان يجودُ به قلمُ هذا الإمام الكبير, وكنتُ حديث النظر في أحد كتبه الرائعة, وهو: "الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر" الذي حقَّقه مجدداً أستاذُنا الدكتور علي محسن مال الله.
وكتابُ "الطب من الكتاب والسنة" صادرٌ عن دار المعرفة في بيروت عام 1986م، وجاء على غلافه أنه قد حقَّقه وخرَّج أحاديثه وعلَّق عليه الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي, ويقع الكتابُ دون المقدمات والفهارس في (259) صفحة مع التعليقات, ومع المقدِّمات والفهارس في (413) صفحة, وهو ذو غلافٍ أنيق، وطبعةٍ رائعة، وورقٍ مصقول، وخطٍّ واضح الحروف ومتناسق السطور.
إنَّ هذا كلَّه -إضافة إلى الموضوع والمؤلِّف -يُغري بالإقبال عليه والبدء به, ولكن ليتني لم أفعل, واكتفيتُ بالاستمتاع بشكله الجذّاب، فالكتابُ من أوله إلى آخره يعجُّ ويضجُّ بالأخطاء، والتحريف والتصحيف، والسقط، وتعثر التراكيب والجمل. ولا تكادُ تَسلمُ صفحةٌ واحدة منه ممّا ذكرتُ, فأين هو التحقيق والتعليق يا سيادة الدكتور؟!
وليت الأمر يقف عند هذا، فقد ظهر لي أنَّ الكتابَ ليس للمُوَفَّق بما لا يَقبل الجدل! ذلك أنَّ مؤلِّفه "المجهول الآن" ينقلُ عن المُوفَّق في تضاعيف كتابه ثماني مرات:
فمرة يقول: قال المُوفَّق عبد اللطيف.
ومرة أخرى يقول: حكاه المُوفَّق عبد اللطيف. دون أن يصرح بمصدر النقل, لكنه صرّح مرة واحدة فقال: قال المُوفَّق في كتاب (الأربعين).
وكتاب "الأربعين" هذا يشتمل على أربعين حديثاً ممّا يَتعلق بالطب وتدبير الصحة مستخرجة من سُنن ابن ماجه. جرده الإمام محمد بن يوسف البرزالي من شرح عبد اللطيف على كتاب السُّنن, وقد حقَّقه العلامة الأستاذ عبد الله كنون، ونشره في مجلة معهد المخطوطات بالقاهرة.
ثم إنَّ في الكتاب نقلين عن الإمام النووي, وهو قد وُلد بعد وفاة المُوفَّق بسنتين, ونقولاً عن العلامة ابن تيمية, وذكراً لبعض معاصريه, وقد وُلد ابن تيمية سنة (661)، وتوفي سنة (728) بينما ولد المُوفَّق في بغداد سنة (557) وتوفي فيها سنة (629).
نخلصُ من هذا إلى أنَّ نسبة الكتاب إلى المُوفَّق مزورةٌ، فكيف غفل المحقِّق ( ! ) الدكتور القلعجي عن هذ؟!.
لقد رأى اسمَ المُوفَّق على المخطوطة التي تحتفظُ بأصلها جامعة كمبردج فاغترَّ بذلك, ولكن ألم يستوقفه ما ورد في الكتاب وهو يُعاني تحقيقه والتعليق عليه؟! لا سيما حداثة النسخة فقد كُتبت سنة (1137هـ)؟! إضافة إلى أنَّ أحداً مِن مترجمي حياة المُوفَّق لم يَذكر له هذا الكتاب سوى بروكلمان, وهو قد اعتمد على هذه النسخة.
وجديرٌ بالذكر هنا أنَّ الأستاذ الباحث المحقِّق هلال ناجي قد نَسب هذا الكتاب أيضاً إلى المُوفَّق في صدر تحقيقه لشرح المُوفَّق لقصيدة "بانت سعاد" ص 76 وعذرُه أنه اعتمد على بروكلمان.
هذا، وقد اكتشفتُ بعدُ أنَّ هذا الكتاب: "الطب من الكتاب والسنة" هو عينُ كتاب: "الطب النبوي" المطبوع منسوباً للإمام الذهبي, فهل يُعَدُّ هذا اكتشافاً للمؤلف الحقيقي؟
هذا ما يحتاجُ إلى دراسةٍ أخرى فهناك أكثرُ من مؤشِّر شكٍ في نسبته إلى الذهبي أيضاً, وأخيراً لا أجد إلا أنْ أقول: اتقوا الله أيها المحقِّقون, وخافوه في تراثنا وذخائرنا وتاريخنا, إنّ حاضرَنا حاضرُ سرعة ولكن إذا انسحب هذا على الماضي فإنه نذيرُ نكبةٍ وطالعُ سوءٍ, وقد علّمنا الخليلُ -رحمه الله- درساً غالياً يومَ أنشد:
إذا لم تستطعْ شيئاً فدعْهُ وجاوزْهُ إلى ما تَستطيعُ
* نشر المقال في جريدة الاتحاد البغدادية سنة 1989م
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول