
الشيخ مجد مكي
من الأسس الأخلاقية العامة التي ترجع إليها مجموعة من الفروع الأخلاقية المحمودة: قوة الإرادة.
ويأتي في مقابل هذا الأساس الخلقي خلق ضعف الإرادة الذي ترجع إليه مجموعة من الرذائل الخلقية في السلوك الإنساني.
وإنما تكون الإرادة القوية خلقاً محموداً إذا كانت مقرونة بالعلم والعقل والحكمة، وإلا كانت سلاحاً ضاراً، فتكون مصيبة على صاحبها وعلى كل من يرتبط به أو يخضع له.
1 ـ ومن أبرز ظواهر قوة الإرادة: كبح جماح الأهواء، قال تعالى: [فَأَمَّا مَنْ طَغَى(37) وَآَثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا(38) فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى(39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى(40) فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى(41) ]. {النَّازعات}..
فالإنسان بقوة إرادته يرقى بنفسه وينتصر على الهوى حتى يكون تبعاً لما جاء به الإسلام كما يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).
والهوى إذا نما سلطانه وهيمن على إرادة الإنسان، انطمست البصيرة وأصبح الهوى هو الآمر الناهي، كما قال تعالى: [أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا] {الفرقان:44}.
2و3 ـ ومن ظواهر قوة الإرادة: التغلب على الكثرة الضالة من الجماهير والقادة المضلين.
إن طاعة أكثر من في الأرض تضل عن سبيل الله كما قال تعالى:[وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ] {الأنعام:116} .
ولذلك حذر الله رسوله صلوات الله عليه من كل مداراة على حساب الحق، أو مساومات في قضايا الدين [وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ] {المائدة:49}.
وقوة الإرادة أما القادة المضلين من ذوي الجاه والسلطان، وضعف إرادة الجماهير هو السبب في تسلطهم واستخفافهم، كما ق ال تعالى عن فرعون: [فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ] {الزُّخرف:54}.
وهم في طاعتهم يتحملون مسؤوليتهم كاملة، كما قال تعالى في شأن الأتباع: [يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ وَالعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا] {الأحزاب:68}.
4 ـ قوة الإرادة أما وساوس الشيطان: فالشيطان للإنسان عدو مبين، أخرج أبويه من الجنة، وحمل لذريتهما العداوة إلى يوم الدين.
فالمسلم القويُّ الإرادة يطرد الشيطان ويبتعد عن وساوسهم ويستعيذ بالله منهم أما ضعفاء الإرادة فتستهديهم الشياطين وتستحوذ عليهم وتستدرجهم حتى تجرّهم إلى حضيض الهاوية:[اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ] {المجادلة:19}.
فالشياطين تستولي على ضعفاء الإرادة الذين يستجيبون لوساوسهم ويتبعون خطواتهم ويتخذونهم أولياء لهم: [إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ] {الأعراف:27}.
5 ـ ومن ظواهر قوة الإرادة البتُّ في الأمور بحزم بعد استبانة عاقبته ولو على وجه الظن الغالب عند ظهور الوجه الأصلح فيها وعدم الاستسلام للتردّد والحَيْرن.
إن ضعيف الإرادة يقتل عمره في متاهات الحيرة والتردد، ويترك الأحداث تبادره ولا يبادرها هو بخططه واستعداداته وأعماله النافقه.
وقد أرشد الإسلام إلى هذا الخلق وعلم الله رسوله إذا عزم على أمر أن ينفذّه متوكلاً على الله غير متردّد ولا متراجع ولا متحيّر:[ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ] {آل عمران:159}.
روى الترمذي: (لا يكن أحدكم إمَّعة، يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن لا تظلموا).
وروى الترمذي عن شداد بن أوس رضي الله عنه: (الكيِّس من دانَ نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله).
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عزم على أمر لم يتراجع عنه، ولم يتردد في تنفيذه ولكنه كان يتأنّى في العزم على الأمور حتى يتدبرها ويستشير أهل الرأي من أصحابه.
ومن شواهد ذلك ما كان منه صلوات الله عليه في غزوة أحد، لما بلّغه مقدم جيش المشركين من قريش إلى المدينة، جمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه فاستشارهم و خيَّرهم بين الخروج لملاقاتهم وقتالهم، والبقاء في المدينة فإن دخلوا عليهم قاتلوهم في طرقاتهم ورموهم من فوق البيوت، فكان رأي الطائفة من شيوخ المسلمين عدم الخروج من المدينة إلى العدو، وكان رأي الطائفة من الشباب والذين لم يكن لهم شرف القتال في غزوة بدر، أن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون لقتال عدوهم خارج المدينة... ولم يزل أصحاب هذا الرأي يلحّو على رسول الله بالخروج حتى وافقهم على ما أرادوا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته فليس درعه، وأخذ سلاحه، ولما خرج بعدة الحرب ظنُّ الذين ألحوا عليه بالخروج أنهم قد استكرهوه، فقالوا له: لعلنا استكرهناك يا رسول الله، ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد.
وهنا برزت قوة إرادة الرسول صلى الله عليه وسلم وصدق عزيمته فقال: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأْمته أن يعضها حتى يقاتل.
وقد علَّم الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه هذا الخلق، ودربهم على المضيِّ في الأمر وعدم التردد فيه بعد العزم عليه.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله عليه يديه فدعا رسول الله عليَّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه فأعطاه إياها وقال: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، فسار عليٌّ شيئاً ثم و قف ولم يلتفت فصرح: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس ؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله )
ففي قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: (امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك) تربية خلقية على المضي في الأمر و عدم التردد، ونهاه عن أن يلتفت إلى الوراء لأن الالتفات مظهرٌ من مظاهر التردد وضعف العزيمة.
وتنفيذاً لهذا التوجيه النبوي وجدنا علياً رضي الله عنه لما أراد أن يأخذ التعليمات التي تتعلق بالمهمة التي حمل الراية للقيام بها، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته وهو متوجّه لمهمته دون أن يلتفت إلى الرسول وفي هذا تدريب عملي على قطع كل تردد قد يعرض للنفس بعد الجزم على القيام بالعمل.
إنها لا تصلح قيادة مع تردد، ولا تصلح قيادة مع تباطؤ وتسويف، ولا تتم الأعمال العظيمة من الأفراد والجماعات إذا كانت مقترنة بالتردد والحيرة وضعف الأمل.
6 ـ ومن ظواهر خلق قوة الإرادة: الجد في الأمور والأخذ فيها بالحزم والنظام في الأعمال والبعد عن كل فوضى.
أما ضعيف الإرادة فإنه يتخاذل أمام ميل نفسه إلى الكسل والتباطؤ في العمل، وتراه يميل إلى الهزل لتعظيمه ضعف إرادته، وتجده لا يجب النظام في أعماله وواجباته.
وقد حثَّ الإسلام على الأخذ بالجد والحزم، ومن التوجيه النبوي إلى المثابرة على العمل بدأب وانتظام، ما رواه البخاري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ)
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوم للعمل جديد متعب بعد فراغه من عمل سابق فقال له: [فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ] {الشرح:8}. أي: فإذا فرغت من عمل سابق فإبدأ بعمل جديد تنصب فيه، ولتكن في كل عملك راغباً بتحقيق مرضاة ربك.
وأما توجيه الإسلام لتنظيم الأعمال وتوزيعها على الأوقات، فموجود في سائر العبادات، بنظام محدد، لا مجال فيه للفوضى، الصلاة تؤدى بنظام في أوقاتها وحركاتها و أقوالها، والصوم يؤدي بنظام تام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والحج يؤدي بنظام تام، فالوقوف بعرفة في يوم معيِّن وسائر الشعائر، والزكاة تؤدي بنظام لا مجال فيه للفوضى.
7 ـ ومن ظواهر قوة الإرادة المبادرة بفعل الخير قبل وجود الموانع، وهذا ما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مُفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشرُّ غائبٍ ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر).
فهذا الحديث يربي المسلمين على خلق قوة الإرادة، بمبادرة الأعمال قبل حلول الصوارف، وحذر من داء التواني والكسل، والتسويف في العمل.
8 ـ ومن ظواهر قوة الإرادة: تلقي الأحداث بالصبر، وعدم الحزن على ما فات، وعدم التطلع إلى الأماني المستحيلة وبعيدة المنال.
وفي تربية المسلمين للتحقق بهذه الظاهرة يقول الله تعالى:[مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] {الحديد:23}.
9 ـ ومن ظواهر قوة الإرادة: ملك النفس عند الغضب.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب). والصُرعة: هو بطل المصارعة الذي يغلب مصارعيه وينتصر عليهم، وبطل المصارعة لا يستحق أن يقال عنه الرجل الشديد، وإنما الذي يستحقُّ هذا الوصف هو قوي الإرادة الذي يملك نفسه عند مثيرات الغضب.
والغضب المطلوب كفُّه هو ما كان غضباً للنفس، أما الغضب لله، فهو ينبع من منابع الإيمان لا من منابع النفس. والغضب لله يكون من المؤمن إذا انتُهكت حرمة من حرمات الله بارتكاب معصية من المعاصي.
وهذا ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم روى البخاري: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمُة الله فينتقم لله بها).
لقد كان صلى الله عليه وسلم يغضب ويتلوّن وجهه الشريف
غضب يوم قدم من سفره على عائشة فرأى في بيتها ستراً رقيقاً فيه تماثيل، لما رآه هتكه وتلوَّن وجهه، وقال: (يا عائشة أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله).
وغضب يوم كلمه أسامة بشأن المرأة المخزومية التي سرقت فقال: (أتشفع في حدٍ من حدود الله تعالى).
وهكذا كان الغضب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه هي مسوِّغاته في شِرْعة الإسلام، أن يكون لله لا للنفس.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول