(2)
أكرم علي حمدان
سُئلتُ، فيما سئلتُ في غزة، عن الثورات العربية، ما لها وما عليها، فإلى اليوم يشك بعض الناس في هذه الثورات، بل منهم من يظنها مؤامرة أمريكية خُدعت بها الشعوب العربية المسكينة، قلت: إن الثورات العربية حتمية تاريخية وجغرافية، كان يجب أن تقوم منذ زمن بعيد، لأن جميع دوافع قيامها متوفرة في عالمنا العربي الحزين، فإن حكّامَه لم يكونوا سوى امتداد لحقبة الاستعمار اللعينة، وأدوات قمع للفكر والحرية، تفتت بهم المنطقة، ونُكبت بهم الشعوب، حاكمين ومخلوعين، لا يبالي أحدهم بتدمير بلده وإبادة شعبه في سبيل بقائه في الحكم، كما نرى الآن في سورية التي طال شتاؤها كثيرًا، وتأخر ربيعها جدًّا، وإلا، فمن في القرن الحادي والعشرين يقبل أن تحكمه عائلة أربعين سنة أو يزيد؟
توفرت جميع دواعي الثورة في عالمنا العربي المنكوب بحكامه وحكوماته، حتى تنبّأ بقيامها كثيرون، أذكر منهم رجلًا أفنى حياته متحرقًا على أمته، وما آلت إليه أحوالها، حتى رأى بعين قلبه الثورة تقوم على الوجه الذي قامت به، قبل نحو ثلاثين سنة، كأنه كان يبصر بنور الله، ويرى ما لا يراه سائر الناس، فكتب يقول: "وإنك لتمر الآن بالطريق، فتجد شرطيًّا يصفع بائعًا جائلًا أمام جمهور ضخم من النظارة الذين يرون هذا العمل الآثم، ثم يمضي أكثرهم غير آبه، ويقف الباقون ليُزجوا الرجاء إلى الجندي كي يعفوَ ويصفح عن عدوانه!
لو أن سوطَ الظلم إذا مسَّ جسدَ مسكينٍ تأوّه له ألوف، وسرى الألم إلى جلودهم فلسعها، فبدلًا من أن يصرخ للعدوان صوت فذٌّ تجاوبت بالوجع والغضب أصوات جمهور غفير، إذن لفكر الظالم ألف مرة ومرة قبل أن يفكر في الانفراد لينهشه."
هذا هو ما كتبه الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، في كتابه البديع "الإسلام والاستبداد السياسي"، وهو كتاب قديم، لكنه يدعو إلى الثورة، الثورة على الظلم، على الاستبداد، على التفرد بالقرار وسوق الناس كما تُساق المواشي؛ يدعو إلى نبذ كل الأدبيات والآراء الفقهية التي تدعو للخنوع والاستكانة للظلمة، مهما كان مصدرها، لأنها ببساطة تتعارض مع الروح الساري في القرآن الكريم، وتتنافى مع جوهر الإسلام، وهو الدعوة لتحرير الإنسان من العبودية لغير الله تعالى، ألسنا الذين قال قائلنا: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ أم أن هذا الكلام قيل للعالم من دون العرب والمسلمين؟ أولسنا الذين قال قائلنا: إنما ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد؟ ألسنا الذين نزل القرآن بلساننا كله دعوة للتحرر وثورة على الظلم والاستعباد؟
كتبتُ قُبيل الربيع العربي مشيدًا بهذه الأمة العربية الإسلامية، ومنتصرًا لها، ومؤمنًا بأنها قادرةٌ لو لم يُحل بينها وبين ما تشتهي، ثم جاءت الثورات العربية لتؤكد ما إليه رمينا، إذ هبت شعوب المنطقة هبّةَ رجل واحد، رغم الخوف والألم وبشاعة الظلم والظالمين، هبت تقول إنها ليست أقل توقًا للحرية والعيش الكريم من غيرها من شعوب الأرض، هبت ففاجأت العالم، الذي وقف لبرهة مشدوهًا أمام ما يرى ويسمع، ثم ما هي حتى رتب أوراقه واتخذ قراره، وهو الكاره لهذه الشعوب، الحاقد على دينها، الـمُجمِعُ على وجوب بقائها ضعيفة متخلفة، فرأينا أفعاله في ليبيا ومصر واليمن وسورية، ورأينا قطعان المستبدين من بني الجلدة تتشبث بحياة، وتحاول من كل طريق أن تعود.
إن أمتنا لم تنكب بشيء نكبتَها بالاستبداد السياسي، فهو أصل كل داء، وجرثومة كل مرض، قلت لسائلي: ليس بالإمكان أسوأ مما كان، وهل ثمة أسوأ من أن تنفرد عائلة بحكم بلد نحوًا من نصف قرن من الزمان؟ ثم هي تطمع بعدُ أن تزيد؟ هل ثمة أسوأ من أن يرأس مصرَ رجل أذاقها لباسَ الجوع والخوف، حكمها بالحديد والنار لثلاثين عامًا أو يزيد، انحط بها في كل جانب من الجوانب، رجل لو أنصفه اليهود لما اكتفوا بوصفه بأنه كنز استراتيجي لإسرائيل، ولكن لطبعوا صورته على أوراق نقدهم، اعترافًا بفضله في تثبيت أركان الكيان الصهيوني الغاصب، خلال ثلاثين سنة منح فيها اليهود الفرصة للتفرغ لمشاريعهم العلمية والاقتصادية والصناعية، وفسح لهم المجال ليتغلغلوا في العالم العربي ينخرونه نخرًا، ويعيثون فيه الفساد والإفساد. وها نحن نرى أيديهم العابثة بأمن البلاد العربية، المعتدية على أهلها المدنيين، المتآمرة مع حكامها الباغين، كما بات معروفًا من سعيهم في أمر مرتزقة القذافي اللعين.
ليس ثمة أسوأ من أن يكون على رأس مصرَ العظيمة طاغيةٌ فقدَ جميع معاني المروءة، فنكب شعبه بما تواترت به الإحصائيات المروعة من تفشي الأمراض، وانتشار الفقر، ونهب الثروات، واستشراء الفساد، وغرق البلاد في الديون. رجل أحاط نفسه بثلة من الفاسدين المفسدين، الضالين المضلين، لا تزال طائفة منهم كبيرة في مواقع مفصلية في الدولة، لعلها لم تزل تأتمر بأوامره، وتلبي رغائبه، وهم الذين حصروا الأمن القومي المصري في معبر غزة، فأوصدوا دون أهلها الأبواب، واجتهدوا في إقامة الحواجز والسدود، بل خرج علينا خارجُهم يهدد بكسر رجل كل فلسطيني تسوّل له نفسه عبور أرض مصر التي فتحت أبوابها مشرعة في زمن هذه العصابة أمام الصهاينة الغازين، يدخلونها بسلام آمنين.
ليس ثمة أسوأ من أن تتحول معابر مصر ومطاراتها إلى سجون رديئة يساق إليها أبناء شعبي، ويلقون فيها ما يلقون من مبالغة في الإهانة والإذلال، على يد زبانية النظام البائد، في بلد هو أكبر من زمرة الطواغيت، كنت كلما بثثت همي لأبنائه بما يجد الفلسطيني في معابر مصر ومطاراتها، جاء الجواب كأنه رجع الصدى، فقد لاقى كثير منهم من العنت مثل ما كنا نلاقي، ولا سيما من يرجع منهم من بلاد الغرب، لأن البلد هي عزبة مبارك ومن سبح بحمده، هكذا ظن مبارك ومن معه، ولكن خيب الله ظنونهم، وأخزاهم ولعنهم وأعد لهم، إن شاء، جهنم وساءت مصيرًا.
لقد كان يجب أن تقوم في مصر ثورة تصحح الخطأ، تمنيتُ ذلك من قديم، وفرحت بها أي فرح، كما فرح كل مسلم وعربي غيور، وناصرتها منذ اليوم الأول، وبكيت لما انتصرت انتصارها الأولي، فأزاحت عن كاهلها رئيسًا كان فيها كالسرطان في الجسد، لكني أرى أن أمام بنيها سبحًا طويلا، وعملًا كثيرًا، فالثورة لا تعدّ ناجحة إلا إذا حققت المطلوب، وجاءت بالتغيير المنشود، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، فقضت على جرثومة الاستبداد، واستأصلت شأفة الفساد، وأسست لعهد من العدل والحرية، ورسَّخت معاني الحكم الشوري ومبادئ الديمقراطية الحقة، وأصلت للتداول السلمي للسلطة، وأعادت توزيع الثروات، ونهضت بعمليات الإنتاج، وإلا فهي ثورة منقوصة، وهبة طارئة، تغير القشور ولا تلج إلى الجوهر.
لقد شهد عالمنا العربي ثورات لم تكن أكثر من انقلابات عسكرية أطاحت بأنظمة لتأتي بأسوأ منها، وذهبت بملوك لتجيء برؤساء يبقون في الحكم أكثر من الملوك، باسم ثورات التغيير والتصحيح، رحم الله السنهوري الذي أراد بعد ثورة من تلك الثورات أن يؤسس لدولة مدنية حقيقية، يُفصل فيها بين السلطات، ويستقل فيها القضاء، ويُفرض القانون، فما كان من الثورة إلا أن ضربته بالأحذية العتيقة.
أعلم ما تمر به بلدان الثورات من محن، وما يدبَّر لها بليل، وأدرك حجم الهجمة وشراسة المعتدين، من الداخل والخارج، وما زلت أرى قبضة الغرب شديدة حول عنق المنطقة، لكني أقول بملء الفم إن أمريكا ليست قدرًا مقدورًا، وإن الأمة العربية قادرة على الانعتاق لو أنها فعلًا أرادت، ليس بالتمني ولا بالتحلي، ولكن بإعمال العقل والتفكير، واقتناص فرص ما يقع في الدنيا من تغيير، وحسن قراءة المشهد السياسي في العالم، ومراقبة عمليات الصعود والهبوط في التكتلات السياسية، والتحالفات الدولية، وقبل ذلك كله أن تأخذ نفسها بالجد فتغير ما في نفسها، في التربية والتعليم والإعلام، في الاقتصاد والاجتماع وعمليات الإنتاج، وأن تنزل من عالم الغيبيات إلى دنيا الحقائق؛ من أحاديث الماضي الفارغة إلى الحديث فيما ينبني عليه عمل، وتقوم به الحياة؛ من التشرذم إلى الوحدة وقبول الآخرين، ومن التفكير بروح الفرد إلى روح الجماعة.
وإلا فإن أُمّةً لم تستطع تجاوز خلافات تاريخية سحيقة لهي أعجزُ من أن تتحدث عن بناء حاضر عتيد؛ إنّ أمةً جعلت من خير دينٍ مصدرَ فرقة وانقسام لا تستحق أن تتكلم عن الوحدة والقوة، إنَّ أمةً عاجزةً عن تنظيف شوارعها لهي أعجز عن اللحاق بركب الأقوياء، إن أمةً لا تقوى على توفير غذائها، مع ما وهبها الله من ثروات، لهي أقل شأنًا من أن تدخل سباق التقدم العلمي والتقني، وإن أمة لا تستطيع أن تنفيَ عنها استبداد المستبدين لا يحق لها أن تتكلم في تحرير فلسطين، فلن يحرر فلسطين إلا شعوب حرة، كريمة، قوية، عزيزة، لا شعوب ترضى بحكم عائلة مأفونة، وأنظمة متعفنة، تتاجر بشعارات المقاومة والممانعة والتحرير.
له صلة
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول