غير المسلمين في المجتمع الإسلامي

من المبادئ المقرّرة في الإسلام: عدم الإكراه على اعتناق الدين؛ التزامًا بقوله تعالى: ? لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ? [البقرة: 256].

 

ولا يحتاج هذا المبدأ إلى استدلال وإيضاح وبرهان، ويكفي هنا أن يلقي أيُّ منصفٍ نظرةً واحدةً على المجتمعات الإسلامية، ليرى الأعداد الكثيرة من غير المسلمين: يهودًا ونصارى وصابئة...، وهم ما زالوا موجودين، ولهم كنائسُهم وبِيَعُهم ومعابدهم، فلو أكرَه المسلمون أحدًا على اعتناق الإسلام، أو ذبَحوا وقتلوا غير المسلمين، لَمَا رأينا اليوم أحدًا من هؤلاء في ديار الإسلام!

 

وقد عُرف هؤلاء بأهل الكتاب أو أهل الذمة، ولهم في كتب الفقه عند المسلمين أحكام كثيرة، تذكرُ تفاصيلَ العلاقة معهم: مواطنةً، ومساكنة، وزواجًا، ومجاورة، وتعاملاً تجاريًّا، وأخلاقيًّا، وغير ذلك.

 

وقد أجاز الإسلامُ الزواجَ بالكتابيات، ولم يشترطِ العلماءُ لإباحة ذلك منعَهن من الخمر، أو الذهاب إلى الكنيسة لممارسة الطقوس الدينية الخاصة بهم.

 

جاء في الفتاوى البزازية 6/359: "ولا يمنع زوجتَهُ الذِّمِّيَّةَ من شُرب الخمر، إلا إذا شرِبتْ في بيته، فله المنعُ من الإدخال".

 

وفي الفتاوى الهندية 5/346 ما يفيد أنَّ زوجةَ المسلم النصرانيةَ لها أن تصلي في بيته حيث شاءت، ولا شك أنه سيُحِبها ويرعاها، ويفتح لها قلبَه ونفسَه، وتكون أمَّ أولاده.

 

والعلاقة بين المسلمين وغيرِهم تعدَّتِ الجانبَ المالي، أو المصاهرة، أو الجوار، إلى التداخل العلمي، وكان علماءُ المسلمين يأخذون ويعطون بغض النظر عن دين الآخذ أو المعطي، وكان لهم علاقات واسعة بعلماءَ من أهل الكتاب.

 

وقد رصَد مؤرِّخو الإسلام هذه العلاقات وكتبوا عنها، وعرَّفوا بكثيرٍ من علماء أهل الكتاب، وذكَروا جهودهم وكتبهم، وخِدماتهم في المجتمع الإسلامي، بكل نزاهة وتجرُّد، وافتحْ أيَّ كتابٍ من كُتب التراجم وانظر ترجمةَ العالِم النصراني أو اليهودي أو الصابئ إلى جانب ترجمة العالِم المسلم، وحسبك أن تنظر: "إخبار العُلماء بأخبار الحكماء" للقفطي؛ لترى العشراتِ من غير المسلمين قبل الإسلام وبعده إلى نهاية الدولةِ العباسية، وغيره كثير!

 

وقد تحصلُ اضطراباتٌ في المجتمع، ويتعرضُ أهلُ الكتاب إلى مخاوفَ من أذى العامة، وهنا يقوم علماءُ المسلمين بجهودٍ كبيرةٍ لحمايتهم والحفاظ عليهم، ودفع الأذى عنهم؛ تطبيقًا لأقوال النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((من آذى ذِميًّا فأنا خَصمه، ومَنْ كنتُ خَصمَه خصَمْتُه يومَ القيامة))، وقوله: ((مَنْ قذَف ذميًّا حد له يوم القيامة بسياطٍ من نار))، وقوله: ((مَنْ قتَل معاهَدًا لم يَرَحْ رائحة الجنةِ)).

 

والأمثلة على ذلك كثيرة، ومِن أبرزها في العصر الأخير:

• ما قام به الأمير عبدالقادر الجزائري (ت: 1300هـ)؛ ففي سنة 1277هـ وقعتِ الواقعةُ المشهورة في ذلك التاريخ - وهي الفتنة بين الدروز والنصارى - فبذَل الأميرُ جهده في إسعاف المسيحيين؛ قيامًا بما يوجبه أمرُ الدين.

 

ولشجاعته وحُسن تدبيره تيسَّر إنقاذُ ألوف عديدة منهم؛ فأهدته الدولةُ العثمانية - وسائر الدول - علاماتِ الشَّرف من الدرجة الأولى[1].

 

• ومنهم علامة دمشق ومفتيها الشيخ محمود بن محمد نسيب، المعروف بابن حمزة الحسيني (ت: 1305هـ).

 

وقد جاء في ترجمة حياته أنَّ نابليون الثالث إمبراطور فرنسا أهداه على أثر حادثة السِّتين المشهورة (1860م) بندقيةَ صيدٍ مُحلاَّة بالذهب؛ شكرًا لِما فعل من الخير، لمساعدة مسيحيي دمشق[2].

 

• ومنهم العلامة الصالح الشيخ عبدالقادر القصاب - من أهل دير عطية قرب دمشق - (ت: 1360هـ)، وقد جاء في سيرة حياته أنه كان بعيدًا عن التعصب، بريئًا من الطائفية، يُكرِم غيرَ المسلمين، ويدفع عنهم الأذى ما استطاع، وعندما قامت الثورة السورية، وأخذ بعضُ الجهلة يعتدون على النصارى، ويؤذونهم، ندب الشيخُ نفسَهُ للدفاع عنهم، بل كان يطوف على بيوتهم في البلدة، ليتأكدَ بنفسه من راحتهم، ويرسل أقرباءه وبعض الشباب لحراستهم في الليل؛ فقابَله النصارى بالودِّ والمحبَّة[3].

 

فأين هذا من تزوير المواقف والتغرير بالناس؟!

أين هذا ممن يجتزئ كلمةً من سياق كلامٍ لشخصٍ غاضب يتكلم على قوم احتلوا الأرضَ، وهتَكوا العِرضَ، واستباحوا الدماءَ والأموال؟!

 

إنَّ غير المسلمين في بلاد الإسلام عاشوا حياتهم آمنين مكرَّمين، وشارَكوا في الحياة السياسية والعِلمية والاقتصادية، وكتابةُ هذا يطول جدًّا؛ فهم جزءٌ من تاريخنا الطويل، وأحد مكوناته المتعددة.

 

والقولُ بأن بعضَ المسلمين يدْعون إلى ذبح اليهود، وكتمان وتغييب هذا التاريخ الناصع والمعايشة التي امتدت قرونًا - قولٌ ساقطٌ مكشوفُ الهدف، يدعو إلى إقصاء المسلمين وإبعادِهم، وسلب حقوقِهم وترويعهم.

 

أما الكلام على ما يفعله الصهاينة في فلسطين اليوم، فقد أدانه اليهودُ المنصِفون العقلاء قبل غيرهم، وهذه حركة (ناطوري كارتا) تهاجمُ ما يفعله هؤلاء، وتصف دولتَهم بأنها معادية للرب، فلماذا لا يتمُّ ذكرهم، وتُعلَن مواقفُهم من قِبل هؤلاء المزوِّرين؟!

 

إن التاريخَ لم يسجل على المسلمين أنهم ذبحوا أحدًا، أو قاتَلوا أحدًا، إلا أن يكون قاتلاً مغتصبًا، سفاكًا سفاحًا، وقوانين الحرب غيرُ قوانين السلم، وما زال في العالم حرب، وها هي الدولةُ العظمى في العالم اليوم تشرِّع لنفسها معاقبةَ الناس على النوايا المجردة، وتتحدَّث عن الحرب الاستباقية! فليعتبرِ المنصِفون.

 

[1] انظر: ترجمة الأمير في صدر كتابه: "ذكرى العاقل وتنبيه الغافل"، ص 18 - 19.

[2] انظر: تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر للأستاذين محمد مطيع الحافظ ونزار أباظة (1/53).

[3] المصدر السابق (1/547 - 548) وفيه رسالة مهمة من قسيس دنماركي إلى الشيخ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين