
قراءة في كتاب :
الكتاب يضم مجموعة من المقالات كان الشيخ علي الطنطاوي قد نشرها في بعض المجلات والصحف ، أو أذاعها بصوته ، ولم يضمها كتاب سابق ، وقد قام بجمعها ونشرها حفيده الأستاذ [ مجاهد مأمون ديرانية ] واستعار لها اسم برنامج للشيخ علي [ نور وهداية ] الذي أمتع المستمعين والمشاهدين وأفادهم ، وما تزال بعض الفضائيات تعيد فقرات منه .
فأسلوب الشيخ - رحمه الله - لا يمل ، ولا ينقص منه الزمن وقد امتاز بأنه السهل الممتنع ، والعفوي ، والجاذب لللسامع والمشاهد والقارئ .
* بلغ عدد المقالات ستا وثلاثين مقالة ، توزعت ما بين محاضرة وخطبة جمعة وحديث إذاعي ومقال منشور في صحيفة عدد ما أذيع [14] وما نشر [ 22 ] شهدتها بغداد ودمشق ومكة وعـمّـان .
وكانت مقالة [ يا أيها المذنبون ] أقدم ما نشر في هذا الكتاب مما أذيع فهو خطبة جمعة ألقاها الشيخ في مسجد الجامعة بدمشق [ 1956 ] ونقلتها الإذاعة على الهواء
وأما مقالته [ في ذكرى المولد ] المنشورة في بغداد فتاريخها [ 1937 ]
وفي ثنايا هذه المقالات ، وفي تضاعيفها يقع القارئ على درر من الحكم البليغة والآراء النافعة والتجارب المفيدة
منها على سبيل المثال :
- يا ليت الموت هو الغاية ! إن الموت بداية لذة لا آخر لها أو ألم ما له من نهاية .
- ليست الصلاة ركوعا وسجودا ورياضة ، فإن ذلك جسمها ؛ والجسم لا يقوم إلا بالروح ، فإذا خلت منها الصلاة كانت صلاة ميتة لا تنهى عن فحشاء ولا منكر ، ولا تُـشعر بلذة !
- الفضل في الإسلام بالتقوى وحدها ، أي بالمزية الشخصية التي يستطيع من شاء اكتسابها ، على حين يتفاضل الناس بالأحساب والأنساب والمناصب والأموال
- لقد فتحنا بالإسلام ثلث المعمورة من الأرض في ثلث قرن ورفرفت رايتنا على ما بين البحر الهادي والبحر الأطلنطي ، ، فلما تركنا الإسلام رفرفت راية اليهود على القدس ، ثالث الحرمين وأولى القبلتين !
[ الله أكبر ] هذا النشيد العلوي الذي لم يهتف لسان الأرض ومن فيها ، ولم تسمع أذن الكون نشيدا أسمى منه سموا ولا أروع منه روعة !
- إن سدت الطرق أمامكم ، وضاقت عليكم الأرض فإن طريق السماء لا يسد أبدا ، وإن كرم الله لا يضيق بسائل وإذا كانت أبواب الملوك عليها الأقفال والحجّاب فباب ملك الملوك مفتوح دائما ؟!!
وإذا رحت تدقق في كل مقالة أو حديث مذاع أو خطبة لا تدري بماذا تعجب ، أبأسلوب الكاتب وهو يتحدث إليك بلا كلفة أم برجاحة عقله ، وصفاء فكره ، وغنى تجاربه ؟!!
ولا نبالغ بالقول أن عليا الطنطاوي مدرسة في أحاديثة المذاعة وكتاباته المتنوعة الرائعة ، مدرسة قائمة لا تغلق أبوابها في وجه أحد، ينجذب إليها ويفيد منها العامي والمثقف فهي لا تخص طبقة دون طبقة ؟!!
وإنك لواجد في هذا الكتاب بمقالاته الست والثلاثين علي الطنطاوي كما تسمعه وتقرأ له ، ابتداء من أقدم مقال منشور في هذا الكتاب [ 1937 ] إلى أحدثه [ 1988 ] وجميعها على اختلاف موضوعاتها وألوانها تصب في مجال التثقيف والتوعية والإصلاح ، وتقديم صور من الحياة وجنماذج من التجارب ، ولا ينبئك مثل خبير
والرجل إن حلق في موضوعاته وأفكاره وسمق فهو لا يقطع الصلة بالواقع ولو كان الواقع مترديا
وإن صاغ معلوماته على السجية فهو لا ينزل بها إلا ليرتفع بقارئ قليل المعرفة أو سامع ضئيل التجربة ..
فالقراءة لمثل علي الطنطاوي كما أنها تسر النفس ، وينشرح لها الصدر فهي تعلم وتربي وتثقف وتنـوَّر وتبشر وتصلح ومن جميل ما وقع لي في أثناء قراءتي الكتاب أن وجدت جوابا و تعليلا لتساؤل مضى عليه سنوات طويلة
ذلك أني زرت بغداد [ رد الله غربتها ] عام 1982 وصليت الظهر في مسجد الإمام الأعظم فيها فشعرت بحالة من الرقة والخشوع إلى حد البكاء ، وحدثت إخوانا لي كثيرين بذلك وأنا في تعجب طال .. فلما قرأت مقالة الشيخ [ بين يدي الله ] المنشورة 1939 ، عرفت السبب وبطل العجب .. كما يقولون ؟!
يقول الشيخ علي الطنطاوي - طيب الله ثراه - للمسجد في ساعة الفجر روعة وجلال وأثر في النفس لا يدركه البيان ولمسجد أبي حنيفة أوفر نصيب من ذلك ، وأشهد أني لم أجد في بغداد كلها مكانا أحس فيه الاطمئنان وأشعر فيه بالخشوع والتجلي كهذا المسجد ، لا لمكان أبي حنيفة منه ، فإن أبا حنيفة لا يضر ولا ينفع ، ولا يكون مؤمنا من يرى فيه ذلك ، أو يتخذ من قبره صنما يعبده ويتمسح به ، ولكن الله قد خص هذا المسجد بهذه الروح لإخلاص أبي حنيفة الإمام الأعظم ، وعلمه وأثره في الفقه الإسلامي وإجماع المسلمين على محبته وإجلاله .
أقول مضيفا : ومثل ذلك وجدت في مسجد تلميذه أبي يوسف - رحمه الله - أديت فيه صلاة المغرب مع صديق لي ، ولم ندرك صلاة الجماعة ، فأحسسنا أن ثقلا زال عن صدورنا ، ولا سيما بعدما مررنا على أضرحة ومشاهد يدعى فيها غير الله ، وتطلب من مدفونيها الحاجات .. وهم أحوج ما يكونون إلى الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة .
وإذا كانت هذه المقالة تعجز أن تذكر كل ما في الكتاب من مضامين فإن في عناوينها أو بعضها استدراكا لما عجزنا. من مثل : روح الصلاة - هل نحن مؤمنون - التوبة - من روض النبوة - عبرة السيرة - النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة - الرزق مقسوم ولكن العمل له واجب- يا سيدي يا رسول الله - يا شباب الإسلام - النية الصالحة أصل لكل خير - الحرب والإيمان - رحلة الحج - فطرة الإيمان
ولا أجدني في هذه العجالة ، وقد أعيا القلم أن يحيط بكل ما في الكتاب وبعرض ما فيه من درر ، إلا أن أقف عند هذه الحادثة التي وقعت للشيخ - رحمه الله - وهي تهز القلب وتدمع العين ، وفيها عبرة لمن أراد أن يعتبر كان الشيخ - رحمه الله - مع أقربائه في دعوة كبيرة ، ولم يمض إلا نصف ساعة حتى أحس بالضيق ولم يعرف له سببا ، فعجب الحاضرون ، فخرج معتذرا ، ولم يستعمل وسيلة نقل ، فمشى وكان الطريق مقفرا والليل ساكنا ، فوجد امرأة تحمل ولدا وتسحب بيدها ولدا ، وهي تنشج وتبكي ، وتدعو دعاء خافتا لم يتبينه ، يقول : فاقتربت منها وسألتها : مالك يا أختي ؟ فنفرت مني ، وحسبتني أبتغي السوء منها ، ونظرت إليَّ ، فلما رأت أنني كهل ، وأنه لا يبدو علي ما تخشاه ، نفضت لي صدرها وشرحت لي أمرها ، وإذا قصتها أنها من حلب ، وأن زوجها يعمل موظفا في دمشق ، وأنه طردها من بيته ، وهي لا تعرف أين تذهب ، وما لها إلا خال لا تستطيع الوصول إلى مكانه .
فقلت لها : أنا أوصلك إلى بيت خالك ، واذهبي من الغد إلى المحكمة فارفعي شكواك إلى القاضي ، فازداد بكاؤها وقالت : وكيف لي بالوصول إلى القاضي و أنا امرأة مسكينة ، والقاضي لا يستقبل مثلي ، ولا يستمع إلي ؟
وكنت أنا يومئذ قاضي دمشق ، فقلت لها : لقد استجاب الله دعاءك يا امرأة لأنك مظلومة ، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ، وأنا القاضي ، وقد استخرجني الله من بين أهلي ، وجاء بي إليك لأقضي - إن شاء الله - حاجتك
وهذه بطاقتي تذهبين بها غدا إلى المحكمة فتلقينني ]
جزى الله خيرا حفيد الشيخ الأستاذ [ مجاهد ] الذي أتحفنا بهذه المقالات ، واستخرجها كما يستخرج الغواص الدر وشكر الله للناشر الذي أبرزها وهو الخبير العارف قدرها ، في كتاب جميل ، جيد طبعا وإخراجا وترتيبا.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول