صحوة شعب

إرادات الشعب المصري التقت جميعها إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 على تحرير الأمة من وهم الخوف، وتطهير الوطن من براثن الفساد؛ ومطاردة الأفاعي في أوكارها، والذئاب في جحورها، بغية تخليص الوطن من سمها الزاعف وشرها المستطير.

ولكن الشعب المصري قام آنئذ بتسليم زمام ثورته إلى الجيش، وقد أحسنوا به الظن، وأمَّلوا فيه الخير، ورجوا منه أن يحفظ لهم ثورتهم حتى يصل بها إلى بر الأمان، ولكن قادته قابلوا ذلك بإساءة وطمع، وانقلبوا في النهاية على رئيسهم المنتخب، وصدق فيهم قول القائل:

رب من ترجو به دفع الأذى             عنك، يأتيك الأذى من قِبَلِه

وبعد ثلاث سنوات عجاف لم يتحمل الشعب فيها هذا الانحراف عن خطى ثورته، ولم يرض بهذا الزيغ عن أهدافها التي ضحى بزهرة أبنائه من أجلها، فما كان منه إلا أن لملم صفوفه واستجمع قواه، وتعالى على الخلافات الشكلية بين أحزابه وحركاته الثورية، وقرر أن يخرج غدًا كما يقول لزيات (رحمه الله): "مزهوًا بجهاده، فخورًا بنفسه، معبرًا بهتافه المرتفع، وتصفيقه المدوي، وحماسه المتقد عن قلقه وارتيابه من حكم العسكر، وعن أمله الفسيح في مستقبل مشرق".

"وكما يورق الشجر ويزهر، وينضر الزهر ويفوح، وتمرح الطير وتهزج، سترى الشعب غدًا من ذات نفسه يبتهج ويفوح، ولإطراب نفسه يغني ويرقص، ولإطراء نفسه ينشد ويهتف: (يسقط يسقط حكم العسكر).

ذلك لأنه أدرك أنه هو صاحب الأرض وصاحب الجيش وصاحب الحكم وصاحب الثروة! من بعد عقود ستة كان فيها لاشيء، ثم استيقظ من نومه وصحا من غفلته فإذا هو يملك كل شيء! وأدرك أن العسكر الذين كان يظن أنهم حماته ودرعه، إذا هم سارقوه ومذلوه وقاتلوه، من أجل أن ينعموا هم بكل شيء، ويحرم هو من كل شيء. 

فَخُصُومُنَا حُكَّامُنَا فَلِمَنْ تُرَى         نَشْكُو وَأَيْنَ مِنَ الْقَضَاءِ المَهْرَبُ

قَامُواْ لحِفْظِ بِلاَدِنَـا مِنْ نَهْبِهَــا         فَإِذَا هُمُ فِينَــــا لُصُـــــوصٌ تَنهَــــبُ

ظن قادة الجيش والشرطة -بعد المذابح التي ارتكبوها في الحرس الجمهوري، والمنصة،ورابعة، والنهضة، ورمسيس، و6 أكتوبر.. وغيرها -أنهم "أوغلوا أيديهم إلى مواطن القوة في الشعب فخنقوها، وإلى الغدة التي تفيض بالعزة والإباء في النفوس فجففوها.. وباتوا وأصبحوا وكل أملهم أن يروا قطيعًا يُضرب فلا ثغاء، ويُحلب فلا استعصاء، ويُستحث فلا إبطاء.. حتى كادت الفرحة أن ترقص في عيونهم رقصة النصر..!

ولكنهم رأوا شعبًا قويًا لا يستكين، أبيًا لا يلين، ورأوا بأعينهم أن الجفاف الذي أصاب الغدة كان طارئًا فزال، ومؤقتًا فانقشع، وعادت الغدة تفيض من جديد عزة وإباء، ووقوة وحرية ومضاءً..! وعربدت في الصدور نوازع الشمم عنيفة كأقسى ما يكون العنف، قوية كأعنف ما تكون القوة، وآثر الشعب هذه المرة أن يكون حذرًا واعيًا، وأن يجتث الشر من أصوله، وأن يقتلع المستبد من جذوره، وأن يجفف الدم في عروقه.

لقذ ذاق شعب مصر في سنةٍ - تنفَّس فيها الزمان قليلاً -نعمة الحرية ونعمة الكرامة ونعمة المساواة، رأوا حكامًا ووزراء ومسئولين قانعين متواضعين، يظهرون في المجامع من غير أبهة، ويمشون في الشوارع بالقليل من الحرس، ويختلطون بالعوام من غير حرج، ثم لا يمدون أعينهم إلى نعيم، ولا يبسطون أيديهم إلى ثراء، رأى  الشعب فيهم عفة النفس، وطهارة اليد، والعمل من أجل مصلحة البلد، فلا يمكن بعد ذلك أن يقبل الشعب مرة أخرى العودة إلى نظام الذل والخوف والتبعية.

يقول الشهيد سيد قطب (رحمه الله): "ولا يحسبن أحد أنه أقوى من هذا الشعب، ولا أكبر من هذا الشعب، ولا أرفع من هذا الشعب، ولا أعلى من هذا الشعب؛ ولا يحسبن أحد أنه من الدهاء بحيث يخدع هذا الشعب عن أهدافه الواضحة المرسومة، ولا أنه من الحيلة بحيث يصرف هذا الشعب عن ثاراته المقدسة، ولا من القوى بحيث يقف في وجه التيار.

إن الغرور وحده هو الذي يصور لفرد أو عشرات من الأفراد أو مئات.. أنهم قادرون على أن يحولوا الدماء ماءً، والنار بردًا وسلامًا، وعلى أن يصلوا مرة أخرى بين الشعب وجلاديه، وعلى أن يُنسوا هذا الشعب دماء أبنائه الأطهار، وقد كاد أن يكون في كل بيت ثأر، وفي كل قلب جرح.. هيهات هيهات! لقد فات الأوان" .

إن الشعب المصري قد ضحى بالآلاف من أبنائه، وهو على استعداد أن يضحي بمليون شهيد في سبيل ألا ترجع مصر إلى من خانوها وأذلوها وسرقوها وسلموها إلى أعدائها، ألا فليشهد العالم وليسمع إن رغب عن أن يشهد، وليعلم إن رغب عن كلا الأمرين، أن كل مصري سيقول اليوم وغدًا: أنا مصر.. ومصر أنا.. لا ذلة ولا هوان.. فروحي في يدي.. ووصيتي في جيبي.. وحب بلدي في جعبتي، والثورة قائدتي وملهمتي.. والله جل جلاله معي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين