دروس في التفسير الموضوعي قصَّة موسى عليه السلام في القرآن الكريم -28-

 
الشيخ مجد مكي
 
جـ ـ وأما موقفه عليه السلام من قومه المؤمنين ـ الذريَّة من بني إسرائيل ـ فإنه توجَّه إليهم يُربِّيهم على المعاني الإيمانيَّة، ويرفع استعداداتهم النفسيَّة لمواجهة المحنة وتحمل الإيذاء في سبيل الله، وحثهم على التوكل على الله، فالتوكل عليه (عنصر القوة الذي يضاف إلى رصيد القلة الضعيفة فإذا هي أقوى وأثبت).
وبهذه التربية العالية استجابت تلك الفئة المؤمنة لموسى عليه السلام حين قال لهم: [وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ] {يونس:84}.
وقال موسى للذُّرِّيَّة الذين آمنوا له من بني إسرائيل: يا قومي إنْ كنتم آمنتم بالله إيماناً صحيحاً صادقاً، وأسلمتم له، فعليه وحده تَوَكَّلُوا، ولأمره فسلِّموا، فإنه ناصر أوليائه، ومهلك أعدائه، إنْ كنتم مسلمين، فإنَّ صِدقَ التوكُّل على الله يمدُّكم بالقوة والهمَّة، والصَّبْر والثبات.
 
 وساروا على منهجه وتوجيهاته، واستعدوا لتحمل المحنة، وقالوا له: [عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] {يونس:85}
قال قوم موسى مُجيبينَ له: على الله وحده اعتمدنا لا على غيره، وإليه سبحانه فوَّضنا أمرنا، ربَّنا لا تُظْهر علينا القومَ الظالمين، ولا تُسلِّطهم علينا، ولا تُمكِّنهم من فتنتنا في ديننا بإغراءاتهم وتضليلاتهم، وتعذيبهم لنا، فإنَّنا إن فُتنَّا في ديننا صِرْنا وسيلة فتنة للآخرين، إذ يتأثَّرون بِفِتْنَتِنَا عن ديننا فيتابعوننا، فنكون نحن بذلك فتنةً لهم.  [وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القَوْمِ الكَافِرِينَ] {يونس:86}أي: وَخَلِّصنا برحمتك من أيدي قوم فرعون الكافرين؛ الذين يَسْتعبدوننا ويستعملوننا في الأعمال الشَّاقَّة.
 
 طلبوا النجاة برحمة الله وليس بعملهم؛ لأن رحمة الله أوسع من الجزاء على مقدار العمل. وبإيمان هؤلاء الشباب بموسى عليه السلام بيان لأهمية الشباب بالنسبة للدعوات فهم حملتها وأنصارها وعمادها وقوتها وسبب انتشارها.
كانت هذه المعاني التي ربَّى موسى عليها قومه المؤمنين للثبات أمام المحن والفتن. إنها تربية الذي يعلم أن المحنة تأتي لصقل وتهذيب المؤمنين وتنقيتهم من الشوائب، إن المحنة والفتنة خطوة لابد منها للبناء، إنها أول عمليات البناء الأساسيَّة وبعدها يستقيم الأمر ويتم.
 
هذا وقد صاحب هذا البناء الروحي والنفسي بناء عمليٌّ حين أمر الله تعالى موسى وهارون أن يتبوءا لقومهما بمصر بيوتاً: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا] {يونس:87}
أي:وَأَوْحَيْنا إلى موسى وأخيه هارون: أن اختارا وهيِّئا لكما ولقومِكما بمصر بيوتاً لعبادتي فيها بالصَّلاة والذكر، واجعلوا بُيوتكم هذه ذات قبلة متَّجهة إلى بيت المقدس، أو مساجد، أو يقابل بعضها بعضاً، وأقيموا الصَّلاة بالمواظبة عليها في أوقاتها، وأدائها على الوجه الشرعيِّ المطلوب.
 
 والمراد اجتماعهم قريباً من بعضهم، وإقامة الصلاة.  وهم بهذا ينفصلون عن المجتمع الظالم ويتسنى لموسى عليه السلام تنظيمهم استعداداً للرحيل من مصر في الوقت المختار، وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة التنظيمية، وهما معاً ضروريتان للأفراد والجماعات وبخاصة قبل المعارك والمشقات.
 
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وكأن هذا -والله أعلم- لما اشتدَّ بهم بلاء فرعون وقومه وضيقوا عليهم، أمروا بكثرة الصلاة، كقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] {البقرة:153}. وفي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى ـ رواه أحمد وأبو داود ـ.
 
وهكذا نرى أن هذه المرحلة والتي امتدت حتى هلاك فرعون قد حفلت بكثير من المعاني التربوية والإعداد الروحي والعملي.
 
 ثم إن موسى عليه السلام بعد أن اتَّخذ كل الخطوات في تربية المؤمنين وفي دعوة فرعون وملئه، وما رأى منهم من نكران وكفر وإصرار واستكبار توجَّه إلى الله بهذا الدعاء: [وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ] {يونس:88}
 
وقال موسى: ربَّنا إنَّك آتيْتَ فرعونَ ووزراءَه ومستشاريه وأعيان مملكته، المناصرين له، والمؤيِّدين لجبروته من زخرف الدنيا ومباهجها وحُليِّها زينةً يتزيَّنون بها، وأموالاً من الذهب والفضة والجواهر يكنزونها في الحياة الدنيا التي تبتلي فيها عبادك، ربَّنا لقد امتحنتهم وأمْهلتهم إمْهالاً طويلاً؛ لتكشف لهم ولغيرهم أنَّ إرادتهم الحرَّة التي منحتهم إيَّاها لاختبارهم لا تعزم إلا على أن يُضلوا عن سبيلك، وصار صلاحهم وإيمانهم أمراً ميْؤوساً منه، ربَّنا اطْمس على أموالهم بالمحو والإزالة، وغيِّرها عن هيئتها، فلا ينتفعوا بها.
 
والطمس محو الآثار حتى لا ترى أو لا تعرف، والمعنى: حتى يعدموا الانتفاع بها، سواء بالمحق بالآفات، أو الإنقاص من المكاسب والثمرات، أو بأي وسيلة تحقق عدم انتفاعهم بها واستعمالها في الضلال والاختلال.
 
{وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} بالطبع عليها، وزيادة قسوتها، أو شدَّ على قلوبهم بالمكاره والمؤْلمات المُوجعاتِ؛ لإِلانَتِها للحقِّ، فلن يُؤمنوا إلى أن يَرَوْا بأعينهم مُقدِّمات العذاب الشديد المُؤْلم { فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ }.
قال ابن كثير: وهذه الدعوة من موسى عليه السلام غضباً لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبيَّن له أنه لا خير فيهم، ولا يجيء منهم شيء، كما دعا نوح عليه السلام فقال: [وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا] {نوح:27}.
وكأن أن استجاب الله تعالى دعاء موسى وهارون عليهما السلام قال تعالى: [قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا] {يونس:89}.
قال الله تعالى لموسى وهارون: قد أُجيبتْ دعوتُكُما في فرعون وأشراف قومه، وأموالهم، فَسَنُعذِّبهم ونُهلكهم مع جنودهم، وإذا أجيبت الدعوة نفذت، وما على النبيين واتباعهما إلا الاستقامة على أمر الله، وعلى ما هم عليه من دعوة فرعون وقومه إلى الحق، ومن إعداد بني إسرائيل للخروج من مصر.
أي :فاسْتقيما في سُلوككما وفي قيادتكما لبني إسرائيل على صراط ربِّكما، وامْضِيا لأمري إلى أن يأتيَهم العذاب.
 
[وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ] {يونس:89} أي: ولا تَسْلُكَا طريقَ الجَهَلة الذين لا يعلمون صراطَ الحقِّ من قومكما بني إسرائيل الذين لا يعلمون سنَّتي في خلقي، وإنجاز وعدي لرسلي، فتستعجلا الأمر قبل أوانه وتستبطئا وقوعه في إبانه.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين