
خير مولود عرفه التاريخ
في مثل هذا الشهر من خمسة عشر قرناً خلت، تمخضت البشرية عن حادث جلل هزّ أركان المعمورة، وقلب أوضاع العالم رأساً على عقب.
في مثل هذا الشهر من خمسة عشر قرناًُ انبعث من بطحاء مكة نور أشرق على الكون فبدّد ظلمته، وأزال غشاوته، ومحا آثار الفوضى والظلم والشرك والاستعباد.
في مثل هذا الشهر ولد خير مولود عرفه التاريخ: عفيفاً في صباه، أميناً في كهولته، صادقاً في لهجته، عالياً في همته، ثاقباً في فكرته، حكيماً في سياسته، عادلاً في حكومته، رحيماً في أمته، مخلصاً في قيادته. ذلك هو درّة الكون وإنسان عين الوجود ذلك هو رسول البشرية الأعظم وأستاذها الأكبر، ذلك هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .
وفي مثل هذا الشهر من كل عام يحتفل المسلمون في أنحاء الأرض بهذه الذكرى الشريفة، فتقام المهرجانات، وتُوزَّع الصدقات، وتقرأ على الناس فصول من سيرته صلوات الله وسلامه عليه، ويبيِّن العلماء والكتّاب للناس ما وصلت إليه إفهام البشر من إدراك بعض نواحي عظمته وعلوّ شأنه صلى الله عليه وسلم ، ولست أريد في مقالي هذا أن أبين ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كمال وجلال وعظمة ورفعة.
فإن فضل رسول الله ليس له حدّ فيعرب عنه ناطق بفم
ولكني أحاول أن أرتشف رشفة من ذلك البحر الخضم ذي الماء العذب الفرات لأروي بها ظمأي، ولأستخرج منها لأمتي العبر والعظات.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل دور من أدوار حياته خير مثال لقادة الأمم وزعمائها في الإخلاص في القيادة، والصبر عند الشدة، والتواضع لله والثقة به، والأخذ بيد الأمة إلى طرق الحق والفلاح مهما قام في سبيل ذلك من عقبات.
ثلاثة عشر عاماً أمضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قومه في مكة يدعوهم إلى الله وينهاهم عما كانوا عليه من شرك وخلال، فلم يلق من أكثرهم إلا عنتاً وإرهاقاً: كذبوه وقد كانوا له قبل النبوة مصدقين. وآذوه وكانوا له من قبل مكرمين. ورموه بالفحش وكانوا له عن ذلك منزهين، قذفوه بالتهم فصفح عنهم، ودعوا عليه فدعا لهم. وتمنوا له الموت فتمنى لهم الحياة. ورموه بالحجارة فرماهم بالهدى والرحمة، وقال: اللهم اهْدِ قومي فإنَّهم لا يعلمون عظمة تتضاءل دونها كل عظمة في الكون، وخلق خضع له الدهر إجلالاً وإكباراً. وأهوالٌ لو أُفرغت على الجبال الرواسي لدكَّتها دكاً ، ولكن نفس محمد صلى الله عليه وسلم كانت أكبر من الدنيا، فلم تعبأ بكل ما في الدنيا.
كان صلى الله عليه وسلم أكرم على ربه من أن يعرّضه لإيذاء المشركين واضطهادهم إلى النهاية، وكان قادراً على أن يلين له القلوب ويخضع له الرقاب، ويُلقي في النفوس قبول دعوته في أقل من عام، ولكن أراد الله أن يكون نبيه المثل الخالد للقادة من بعده في تحمل الشدائد والصبر على اللأواء وبذل الروح في سبيل الدفاع عن المبدأ الحق حتى يتم أمر الله.
انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تمالأت عليه قريش تريد الفتك به، فهل تراه جزع على فراق وطنه؟ أو هل تراه استسلم للقوّة الغاشمة وتراجع عما بدأ به من الدعوة له. حاشا لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يفعل مثل هذا، أو يهم به، ولكنه هاجر من بلده، منشرح الصدر مسرور الفؤاد إلى بلدة أخرى ينشر فيها دين الله. حتى إذا كان بالغار مع صاحبه وأدركته رسل قريش قال له: لا تجزع إن الله معنا...
نفس ملئت بنور الله حتى لم يبق فيها منبت شعرة لم يدخله ذلك النور. وفؤاد مزج بالثقة بالله مزجاً حتى أصبح ينظر إلى الدنيا وقد تمالأت عليه كما ينظر الأسد إلى الضفادع وقد ارتفع أصواتها حوله. وفي هذا رادع لذوي النفوس الضعيفة من القادة الذين يجزعون من صوت الهرّة، وينفرون من صفير الصافر، ويركنون إلى غير الله.
انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مكّنه الله من قومه الذين أخرجوه من بلده فلم يتمكن من نفسه حب الانتقام كما يفعل الفاتحون، ولكنه قال لهم كما قال أخوه يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم. هل شهد الناس مثل هذا؟ وهل حدَّث التاريخ بمثل هذا؟ كلا ورب محمد، وإنه لمثل يضربه للقادة كيف يصفحون عند القدرة، وكيف يكونون أرأف بأمتهم من الأم الرؤم بولدها.
هذه قطرة من بحر عظمته، وغيض من فيضه صلى الله عليه وسلم، فهل فكر قادتنا الذين يحتفلون اليوم بمولده عليه الصلاة والسلام أن يمرّنوا أنفسهم على أن يكونوا قادة محمديين؟
الأمة بقادتها، فإذا رأيت أمة تضرب في العلم بسهم وافر، وتتبوَّأ في المجد أريكة، فاعلم أنها ما وصلت إلى ما وصلت إليه إلا بدلالة قادتها وسيرهم بها إلى الوجهة التي تؤدي بها إلى السعادة والكرامة. وإذا رأيت أمة مفككة الأوصال منهوكة القوى، تائهة في بيداء الجهالة، فاعلم بأنَّ ذلك إما من قادتها الذين ناموا عنها أو من قادتها الذين وجَّههوها إلى غير الوجهة الحقَّة التي تُوصلها إلى السعادة فضلت الطريق، وهي تحسب أنها تحسن صنعاً.
ومما لا شك فيه أننا من النوع الثاني. ومن المؤلم أن تكون القيادة أصل بلائنا وعلته، ومن المؤلم أن نصرِّح بهذا، ولكن ما الحيلة وقد أوشكنا على آخر رمق من الحياة، فمن الغش السكوت بعد هذا على ما بنا من علل وأمراض، ولو أن قادتنا جمعوا شملهم، وخضدوا شوكة أنانيتهم، ووحَّدوا كلمتهم، ثم وجَّهوا هذه الأمة إلى الطريق السوي لما كنا في مثل حالتنا الحاضرة التي تُفتِّت القلب وتذيب لفائف الأفئدة...
ترى أكانت الفرق المدسوسة على الإسلام تجد سبيلاً إلى أبناء أمتنا، لو كان في قادتنا يقظة وغيرة واتفاق على وجهة العمل؟
أكانت تلك النعرات القومية التي تهدد مجموع الأمة بالتفكك والانحلال تجد سبيلاً إلى عقول أبنائنا، لو كان في قادتنا يقظة وغيرة واتفاق على وجهة العمل؟.
أكانت الأمة تقع في بؤر الفساد والشهوات مما أفقدها روح الرجولة والشهامة، لو كان في قادتنا يقظة وغيرة واتفاق على وجهة العمل؟.
ماذا أُعدِّد من عللنا التي أُصبنا بها لأننا ليس لنا قيادة، وأقسم لولا أن الله نهانا عن اليأس والقنوط لقلت: إن هذه الأمة تعاني اليوم آلام النزع، ولن يرجى لها حياة بعد هذا أبداً.
أيها القادة، أيها الزعماء في كل بلد إسلامي على وجه الأرض: لقد أوشكنا على الغرق وأنتم ساكتون، وتقاسمتنا الدسائس وأنتم عنها غافلون، وأصبحنا بين الموت والحياة وأنتم عن النظر فيما يعيد الينا الحياة مشغولون. فنستحلفكم بالأمانة التي وُضعت في أعناقكم، وبالكرامة التي يجري دمها في عروقكم، أن تنزعوا ما بينكم من إحن وبغضاء، وأن تتعاونوا على إنقاذ هذه الأمة من وهدة الذل والشقاء، قبل أن يستفحل الداء ويعز الدواء، ووالله إن ذلك بأيديكم إن أردتم أن تكونوا على رأس أمة تطاول السماء مجداً وفخاراً.
أيها القادة، أيها الزعماء في كل بلد إسلامي على وجه الأرض:
إنها أنَّة جريح مُثْخن بالجراح، إنها أنَّة أمة بأسرها. فبالله كونوا قادة محمديين، واستفيدوا من سيرة صاحب هذا المولد الأخلاق التي قاد بها أمته وغيَّر بها وجه الأرض، ولا تُشمتوا بنا الأعداء، ولا تضنُّوا علينا بالعلاج في أشدِّ أوقات الخطر.
أيها القادة أيها الزعماء: إنا نشهد الله والعالم على أن هذه الأمة أوفى أمة في جهاد، وأقوى جند يحاربون تحت لواء قادة سحقوا أنانيتهم إرضاءً لله، وهي مستعدة للمضي ما وجَّهتموها إلى الخير وقدَّمتموها إلى السعادة، وهي مستعدة لأن تبذل لكم الأرواح، فهل منكم من يضحي لأجلها بأنانيته، ويبذل لها عقله وتفكيره، ويطرح من أجلها منفعته ولذته؟! ألا إننا أمة مستعدة لنؤدي ما عليها ، ألا قد بلغت ، اللهمّ فاشهد...
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول