خواطر حول مولده صلى الله عليه وسلم


 

الشيخ: محمد البنا
 
هي كلمات أرسلها تحيةً لشهر المولد المبارك، مولد نبي الرحمة، الذي ملأ الدنيا هدى، وكساها عزاً وسؤدداً، وإنها لخواطر المستجير العائذ، وجهد المقل اللائذ، الذي يرجو ربه أن يمنَّ عليه بنفحة من نفحات رسوله الهادي الأمين صلى الله عليه وسلم، تخفف عنه بؤس العيش، وتدفع ما مسَّه من ضرٍّ، وما انتابه من بلاء ونكر، وتخلصه من شوائب الحياة وتطهر قلبه من الأهواء والعلل، وتجمعه من الشتات، وتوقظه من السُّبات.
 
سيد هذا الوجود ظهر في الأرض، وإن كان مقامه فوق أهل الأرض جميعاً، وإنه من البشر وإن كان فوق البشر، وإنه من العرب وإن كان فوق العرب، وفوق كل جيل.
ولن تنزل أقوالنا هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث لم ينزله
 
الله، فربُّه جل ثناؤه شهد له بالفضل، واصطفاه بالرسالة، وأنبأ أنه صفوة الخلق:[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] {القلم:4}. [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.
وما يخطر ببالك من كمال فصف به محمداً صلى الله عليه وسلم ولا تبالي، فما في البشرية أحد نال مناله، ولا مخلوق بلغ منزلته، فقل فيه كل شيء عدا صفات الألوهية:
 
دع ما ادَّعته النصارى في نبيهم        واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
 
هل رأيت براً في البشر يبلغ بر محمد أو يساويه؟ هل تعرف أحداً أكمل وفاء وأحفظ للمعروف من النبي الكريم؟ تأثر بحياة الصبا، واحتفظ بحوادثه وذكرياته ما أقام في هذه الدنيا، فلم يكن يقدر على البر وإسداء المعروف وإظهار شكره للنعمة واعترافه بالجميل حتى ضرب للناس في ذلك أروع الأمثال، وأبلغها تأثيراً في القلوب.
 
أرضعتْه ثويبة أمة أبي لهب أياماً قبل أن تأخذه حليمة، وعرف لك من أمرها فلم يكد يقدر على شكرها والبر بها حتى جهد في ذلك، وإذا وهو يحمل زوجه خديجة على أن تسعى عند أبي لهب في أن تشتري منه هذه الأمة لتعتقها، فيأبى أبو لهب، فيتصل معروفه بهذه الأمة ما أقام بمكة، حتى إذا هاجر إلى المدينة لم ينسها ولم يهملها، فهو يرسل إليها الصلات والكسوة من حين إلى حين، حتى إذا عاد من خيبر وعرف أنها ماتت سأل عن قرابتها لينالها بما كان ينالها به من المعروف، فأخبر أنها لم تترك أحداً بعدها تنبغي صلته.
 
ثم تَعَضُّ حياة البادية وما فيها من الضنك والشقاء حليمة السعدية، فإذا هي تهبط إلى مكة تستعين بابنها على أثقال الحياة، فيكلم لها خديجة فتمنحها بعيراً وأربعين شاة، ثم تهبط مرة أخرى فإذا أدخلت عليه ورآها قال: أمي أمي! ويبسط رداءه ويجلسها عليه! ويقضي حاجتها ويخصها بحبائه.
 
وعظم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وارتفع ذكره، ودانت له العرب كلها، وقد نصره الله يوم حنين على هوازن، فيأمر بطلبهم ويقول لجيشه إن قدرتم على بجاد - رجل من بني سعد - فلا يفلتن منكم، فتأخذه الخيل، ويقرن بالشيماء بنت الحارث أخته صلى الله عليه وسلم من الرضاع، فيأخذ منهما السباق مأخذه، وتتعب الشيماء فتقول لمن قرنوها: والله أخت صاحبكم! فلا يصدقها أحد، ثم يأخذها طائفة من الأنصار أشد الناس على هوازن فيأتون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقول: يا محمد إني أختك، فيسألها عن علامة ذلك، فتقول هذه عضة بإبهامي حين عضضتني فيه وأنا أحملك بوادي السد ونحن يومئذ نرعى بَهم أبيك وأبي وأمك وأمي، وتذكر يا رسول الله حلابي لك عنز أبيك، فيعرف أكرم الخلق وأبرهم هذه العلامة فيثب قائماً، ويبسط رداءه ويقول لها: اجلسي عليه، ويرحب بها، وتدمع عيناه، ويسألها عن أمه وأبيه، فتخبره بموتهما، فيقول: إن أحببت فأقيمي عندنا محببة مكرمة، وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك وصلتك ورجعت إلى قومك.
 
فتسلم وتقول: بل أرجع إلى قومي، فيعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعبد وجارية، ويسألها من بقي من أهلها، فتخبره بأخيها وأختها وقوم سألها عنهم، فيقول ارجعي إلى الجعرَّانة فتكوني مع قومك فإني أمضي إلى الطائف، فرجعت إلى الجعرَّانة ووافاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها نعماً وشاء، ولم تنسَ أخته أن تكلمه في بجاد ذلك الرجل الذي قُرنت به في الغُل، فلا يرد الرسول صلى الله عليه وسلم لها رجاء، ويهبه لها، ويعفو عنه.
 
ويبلغ بالرسول البر أن يحاول إيصاله لمن أسدى إليه عرفاً أو دفع عنه شراً وإن كان لا يملك له خيراً ولا يستطيع له نفعاً:
دخل مكة عام الفتح ظافراً منتصراً، وبينما هو في بعض مواضعها رأى أصل قبر، فمال إليه وأقام عنده، واستأذن في الاستغفار لصاحب القبر، فلم يؤذن له، فانصرف محزوناً كئيباً، وبكى فبكى الناس، وما رأى الناس يوماً أكثر باكياً من ذلك اليوم.
 
تبارك الله الذي علم رسوله كيف يستميل النفوس ببره، ويطهرها بإحسانه، ثم كمله تكميلاً، وفضله على سائر خلقه تفضيلاً، وأودع ذلك القلب الجريء شعوراً صافياً وحسّاً مرهفاً، فذلك الشجاع الذي لا يُحجم البطل الذي لا يغلب، يحمل في فؤاده من الرحمة والرفق ما لا يسعه قلب سواه.
 
يتحدث الرواة عن ابن عباس رضي الله عنهما قالوا: لما أمسى القوم من يوم بدر والأسارى محبوسون في الوثاق، بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ساهراً أول ليلته، فقال له أصحابه: يا رسول الله مالك لا تنام؟ فقال: سمعت تضور العباس في وثاقه! فقاموا إلى العباس فأطلقوه. فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه الشجاعة التي عبر عنها علي كرم الله وجهه بقوله: كنا إذا اشتد الخطب واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليست شجاعة البطش، ولا قوة العدوان، ولكنها الشجاعة التي تحتمل الخطوب في الحق، وتدافع الملمات في سبيل الله، فليس عجيباً أن يجمع الله معها الرحمة، ويلائم بينها وبين الرفق والحنان.
 
ولقد قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فطره الله لا يهاب ولا يوجل ولا يشكو ولا يفزع لم يقتل بيده الشريفة في جهاده الطويل إلا رجلاً واحداً أفرط في العدوان وتمادى في البغي؛ وذلك هو: أُبَيّ بن خلف، تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشِّعب يوم أُحد يريد أن يفتك به، فتناول الرسول الحربة من الحارث بن الصِّمة وطعنه بها في عنقه، فكرَّ أبي بن خلف منهزماً وقال له المشركون: ما بك من بأس، فقال: والله لو تفل علي لقتلني! ومات بسَرِف وهم قافلون. وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: اشتد غضب الله على رجل قتل نبياً أو قتله نبي.
 
هذه النفس الطيبة الطاهرة لا ترضى أن تلقى ربها وفي عنقها مظلمة لأحد، في نفس أو مال، وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها شاهدة بأنه سيد العادلين، وأوفى من أخذ بالقسطاس، حتى أعطى القود من نفسه.
 
فقد روى ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يده قِدح (سهم) يعدِّل به القوم، فمر بسواد بن غَزِيّة حليف بني عدي ابن النجار وهو خارج من الصف، فطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطنه بالقدح، ثم قال: استوِ يا سواد بن غزية، فقال: يا رسول الله أوجعتَني وقد بعثك الله بالحق فأقدني. قال: فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: استقد، فاعتنقه وقبَّل بطنه. فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ فقال: يا رسول الله حضر ما ترى فلم آمن الموت، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسَّ جلدي جلدك! فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وقال له خيراً.
 
وهذا عدل لا تعرفه البشرية من قبل ولا من بعد، ولكنه ليس بكثير على النبي الكريم الذي ألهمه ربه حب العدل وهو في المهد، وهداه إلى الإنصاف يوم أن فطره كاملاً.
 
وأهل السيرة يقولون إنه حين احتملته حليمة السعدية لترضعه كان لا يلتقم من ثدييها إلا ثدياً واحداً، ويترك الآخر مليئاً حافلاً لا يمسه ولا ينقصه خشية أن يظلم أخاه من الرضاعة أو يحيف عليه.
 
هذه بعض الصفات التي أنزلت محمداً صلى الله عليه وسلم في السويداء من قلوب أصحابه، وجعلتهم يفدونه بالمهج والأرواح، ويؤثرونه على أنفسهم وأهليهم، ولهم في ذلك فنون من العجب.
 
يروى في ذلك أهل السير قصة صفوان بن أمية مع زيد بن الدِّثنة، وهو حديث طويل ليس يعنينا منه إلا أن صفوان ابن أمية اشترى زيداً وأخذه ليقتله، ووكَّل بقتله مولى يقال له: نسطاس، فأخرجه من الحرم ليقتله، واجتمع إليه رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمداً عندنا الآن مكانك فتضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي! فقال أبو سفيان: ما رأيت أحداً من الناس يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً.
 
وأنت مهما بلغت من البراعة والتأثير فلن تصور حب الناس لهذه النفس الكريمة بأكثر من هذه السهولة الأخاذة التي يحكيها هذه القصص، وذلك من آيات الله التي أكرم الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك هو الروح الشفاف الذي يجذب إليه القلوب، ويستشف ما وراءه من حجب الغيب، فلا يستطيع أحد أن يفلت منه بسيئة ينالها، أو يكتم عنه سراً يخبئه.
 
ولما جاء أسارى بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب: افد نفسك ومن معك فأنت ذو مال. فقال: يا رسول الله إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني. فقال: الله أعلم بإسلامك، إن يكن ما تذكر حقاً فالله يجزيك به، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، افد نفسك، قال: فإني ليس لي مال. قال: فأين المال الذي وضعته بمكة حين خرجت من عند أم الفضل بنت الحارث ليس معكما أحد ثم قلت لها إن أصبت في سفرتي هذه فللفضل كذا ولعبد الله كذا ولقِثُم كذا ولعبيد الله كذا؟ قال: والذي بعثك بالحق، ما علم هذا أحد غيري وغيرها! وإني لأعلم أنك رسول الله.
 
هذه المعجزات وأشباهها هي التي ألانت كل جاحد، وقربت إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كل شارد، وأنطقت الألسن الجامحة، وأخضعت الرقاب العاتية، وجعلته صلى الله عليه وسلم فريداً لم يدرك أحد القبول الذي رزقه، ولا انفعلت نفوس الناس لأحد انفعالها له، فلم يسمع أحد كلامه إلا أحبه ومال إليه، ولذلك كانت قريش تسمي كلامه السحر، ويقولون إنه ليفعل بالألباب ما لا تفعل الخمر، وينهون صبيانهم عن الجلوس إليه لئلا يستميلهم بكلامه وشمائله. وكان إذا صلى في الحجر وجهر يجعلون أصابعهم في آذانهم خوفاً أن يسحرهم ويستميلهم بقراءته ووعظه.
 
وكانوا يهرُبون إذا سمعوه يتلو القرآن خوفاً أن يغير عقائدهم في أصنامهم، ولهذا أسلم أكثر الناس بمجرد سماع كلامه ورؤيته ومشاهدة روائه ومنظره، وما ذاقوه من حلاوة لفظه وسرى كلامه في آذانهم وملك قلوبهم وعقولهم حتى بذلوا المهج في نصرته، وهذا من أعظم معجزاته، وهو عند الإمعان سر النبوة.
 
وبعد، فهذه صور قليلة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، نعرضها لمن يريد أن يتأثر المثُل العليا، ويتأسى بالأسوة الحسنة، وتلك بعض معجزاته نُلقي بها في وجه من يكابر في معجزات الرسول ويماري فيها، ومن عجيب الأمر أن منهم من نبت في حجر الدين وكسب مجده بالانتساب إلى سيد المرسلين، فإن أقر واعترف فلا عليه ما مضى فإن الله غفور رحيم، وإن تمادى وجحد فلا يلومنّ إلا نفسه، وفي المثل العربي: امرأ وما اختار، وإن أبى إلا النار.
 
والناس فريقان: ظالم لنفسه لا يصدق الآيات، ومقتصد سابق بالخيرات، والله تعالى يقول: [إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا] {الكهف:29ـ30}.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
مجلة لواء الإسلام العدد السابع من السنة التاسعة ربيع الأول 1375 الموافق نوفمبر1955م.


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين