
في ظلال القرآن للشهيد : سيد قطب
يقول الشهيد : .... ثم يخطو بهم خطوة أخرى , وهو يلفتهم إلى أن كل ما أتوه في هذه الأرض متاع موقوت في هذه الحياة الدنيا . وأن القيمة الباقية هي التي يدخرها الله في الآخرة للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون . ويستطرد فيحدد صفة المؤمنين هؤلاء , بما يميزهم , ويفردهم امة وحدهم ذات خصائص وسمات !
فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا , وما عند الله خير وابقى:
لقد سبق في السورة أن صوّر القرآن حالة البشرية ; وهو يشير إلى أن الذين أوتوا الكتاب تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ; وكان تفرقهم بغيا بينهم لا جهلاً بما نزل الله لهم من الكتاب , وبما سن لهم من نهج ثابت مطرد من عهد نوح إلى عهد إبراهيم إلى عهد موسى إلى عهد عيسى - عليهم صلوات الله - وهو يشير كذلك إلى أن الذين أورثوا الكتاب بعد أولئك المختلفين , ليسوا على ثقة منه , بل هم في شك منه مريب
وإذا كان هذا حال أهل الأديان المنزلة , وأتباع الرسل - صلوات الله عليهم - فحال أولئك الذين لا يتبعون رسولا ولا يؤمنون بكتاب أضل وأعمى .
ومن ثم كانت البشرية في حاجة إلى قيادة راشدة , تنقذها من تلك الجاهلية العمياء التي كانت تخوض فيها . وتأخذ بيدها إلى العروة الوثقى ; وتقود خطاها في الطريق الواصل إلى الله ربها ورب هذا الوجود جميعا .
ونزل الله الكتاب على عبده محمد [ ص ] قرآناً عربياً , لينذر أم القرى ومن حولها ; وشرع فيه ما وصى به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى , ليصل بين حلقات الدعوة منذ فجر التاريخ , ويوحد نهجها وطريقها وغايتها ; ويقيم بها الجماعة المسلمة التي تهيمن وتقود ; وتحقق في الأرض وجود هذه الدعوة كما أرادها الله , وفي الصورة التي يرتضيها .
وهنا في هذه الآيات يصور خصائص هذه الجماعة التي تطبعها وتميزها . ومع أن هذه الآيات مكية , نزلت قبل قيام الدولة المسلمة في المدينة , فإننا نجد فيها أن من صفة هذه الجماعة المسلمة: (وأمرهم شورى بينهم). . مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاماً سياسياً للدولة , فهو طابع اساسي للجماعة كلها , يقوم عليه أمرها كجماعة , ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة , بوصفها إفرازاً طبيعياً للجماعة . كذلك نجد من صفة هذه الجماعة:(والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون). . مع أن الأمر الذي كان صادراً للمسلمين في مكة هو أن يصبروا وألا يردوا العدوان بالعدوان ; إلى أن صدر لهم أمر آخر بعد الهجرة وأذن لهم في القتال . وقيل لهم:(أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير). وذكر هذه الصفةهنا في آيات مكية بصدد تصوير طابع الجماعة المسلمة يوحي بأن صفة الانتصار من البغي صفة أساسية ثابتة ; وأن الأمر الأول بالكف والصبر كان أمراً استثنائياً لظروف معينة . وأنه لما كان المقام هنا مقام عرض الصفات الأساسية للجماعة المسلمة ذكر منها هذه الصفة الأساسية الثابتة , ولو أن الآيات مكية , ولم يكن قد أذن لهم بعد في الانتصار من العدوان .
وذكر هذه الصفات المميزة لطابع الجماعة المسلمة , المختارة لقيادة البشرية وإخراجها من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام . ذكرها في سورة مكية وقبل أن تكون القيادة العملية في يدها فعلا , جدير بالتأمل . فهي الصفات التي يجب ان تقوم أولا , وأن تتحقق في الجماعة لكي تصبح بها صالحة للقيادة العملية . ومن ثم ينبغي أن نتدبرها طويلا . . ما هي ? ما حقيقتها ? وما قيمتها في حياة البشرية جميعاً ?
إنها الإيمان . والتوكل . واجتناب كبائر الإثم والفواحش . والمغفرة عند الغضب . والاستجابة لله . وإقامة الصلاة . والشورى الشاملة . والإنفاق مما رزق الله . والانتصار من البغي . والعفو . والإصلاح . والصبر
فما حقيقة هذه الصفات وما قيمتها ? يحسن أن نبين هذا ونحن نستعرض الصفات في نسقها القرآني.
إنه يقف الناس أمام الميزان الإلهي الثابت لحقيقة القيم . والقيم الزائلة القيم الباقية ; كي لا يختلط الأمر في نفوسهم , فيختل كل شيء في تقديرهم . ويجعل هذا الميزان مقدمة لبيان صفة الجماعة المسلمة:
(فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا , وما عند الله خير وأبقى). .
إن في هذه الأرض متاعاً جذاباً براقاً , وهناك أرزاق وأولاد وشهوات ولذائذ وجاه وسلطان ; وهناك نعم آتاها الله لعباده في الأرض تلطفا منه وهبة خالصة , لا يعلقها بمعصية ولا طاعة في هذه الحياة الدنيا . وإن كان يبارك للطائع- ولو في القليل - ويمحق البركة من العاصي ولو كان في يده الكثير.
ولكن هذا كله ليس قيمة ثابتة باقية . إنما هو متاع . متاع محدود الأجل . لا يرفع ولا يخفض , ولا يعد بذاته دليل كرامة عند الله أو مهانة ; ولا يعتبر بذاته علامة رضى من الله أو غضب . إنما هو متاع . (وما عند الله خير وأبقى). . خير في ذاته . وأبقى في مدته . فمتاع الحياة الدنيا زهيد حين يقاس إلى ما عند الله , ومحدود حين يقاس إلى الفيض المنساب . ومتاع الحياة الدنيا معدود الأيام . أقصى أمده للفرد عمر الفرد , وأقصى أمده للبشرية عمر هذه البشرية ; وهو بالقياس إلى أيام الله ومضة عين أو تكاد .
وبعد تقرير هذه الحقيقة يأخذ في بيان صفة المؤمنين الذين يذخر الله لهم ما هو خير وأبقى . .
ويبدأ بصفة الإيمان: (وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا). . وقيمة الإيمان أنه معرفة بالحقيقة الأولى التي لا تقوم في النفس البشرية معرفة صحيحة لشيء في هذا الوجود إلا عن طريقها . فمن طريق الإيمان بالله ينشأ إدراك لحقيقة هذا الوجود , وأنه من صنع الله ; وبعد إدراك هذه الحقيقة يستطيع الإنسان أن يتعامل مع الكون وهو يعرف طبيعته كما يعرف قوانينه التي تحكمه . ومن ثم ينسق حركته هو مع حركة هذا الوجود الكبير , ولا ينحرف عن النواميس الكلية فيسعد بهذا التناسق , ويمضي مع الوجود كله إلى بارىء الوجود في طاعة واستسلام وسلام . وهذه الصفة لازمة لكل إنسان , ولكنها ألزم ما تكون للجماعة التي تقود البشرية إلى بارىء الوجود .
وقيمة الإيمان كذلك الطمأنينة النفسية , والثقة بالطريق , وعدم الحيرة أو التردد , أو الخوف أو اليأس . وهذه الصفات لازمة لكل إنسان في رحلته على هذا الكوكب ; ولكنها ألزم ما تكون للقائد الذي يرتاد الطريق ,ويقود البشرية في هذا الطريق .
وقيمة الإيمان التجرد من الهوى والغرض والصالح الشخصي وتحقيق المغانم . إذ يصبح القلب متعلقاً بهدف أبعد من ذاته ; ويحس أن ليس له من الأمر شيء , إنما هي دعوة الله , وهو فيها أجير عند الله ! وهذا الشعور ألزم ما يكون لمن توكل إليه مهمة القيادة كي لا يقنط إذا أعرض عنه القطيع الشارد أو أوذي في الدعوة ; ولا يغتر إذا ما استجابت له الجماهير , أو دانت له الرقاب . فإنما هو أجير .
ولقد آمنت العصبة الأولى من المسلمين إيماناً كاملاً أثر في نفوسهم وأخلاقهم وسلوكهم تأثيراً عجيباً . وكانت صورة الإيمان في نفس البشرية قد بهتت وغمضت حتى فقدت تأثيرها في اخلاق الناس وسلوكهم , فلما أن جاء الإسلام أنشأ صورة للإيمان حية مؤثرة فاعلة تصلح بها هذه العصبة للقيادة التي وضعت على عاتقها .
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه:"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" . عن هذا الإيمان:
"انحلت العقدة الكبرى - عقدة الشرك والكفر - فانحلت العقد كلها ; وجاهدهم الرسول جهاده الأول , فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهي , وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى , فكان النصر حليفه في كل معركة ; وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة , لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى , ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى , ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى . . . . "
"حتى إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم - بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم - وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيرهم , وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة , وفي اليوم رجال الغد , لا تجزعهم مصيبة , ولا تبطرهم نعمة , ولا يشغلهم فقر , ولا يطغيهم غنى , ولا تلهيهم تجارة , ولا تستخفهم قوة , ولا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا , وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم , قوامين بالقسط شهداء لله على أنفسهم أو الوالدين والأقربين . . وطأ لهم أكناف الأرض , وأصبحوا عصمة للبشرية , ووقاية للعالم . وداعية إلى دين الله . . . "
ويقول عن تأثير الإيمان الصحيح في الأخلاق والميول:
"كان الناس عرباً وعجماً يعيشون حياة جاهلية , يسجدون فيها لكل ما خلق لأجلهم ويخضع لإرادتهم وتصرفهم , لا يثيب الطائع بجائزة , ولا يعذب العاصي بعقوبة , ولا يأمر ولا ينهى ; فكانت الديانة سطحية طافية في حياتهم , ليس لها سلطان على أرواحهم ونفوسهم وقلوبهم , ولا تأثير لها في أخلاقهم واجتماعهم . كانوا يؤمنون بالله كصانع أتم عمله واعتزل وتنازل عن مملكته لأناس خلع عليهم خلعة الربوبية ; فأخذوا بأيديهم أزمة الأمر , وتولوا إدارة المملكة وتدبير شؤونها وتوزيع أرزاقها , إلى غير ذلك من مصالح الحكومة المنظمة . فكان إيمانهم بالله لا يزيد على معرفة تاريخية , وكان إيمانهم بالله , وإحالتهم خلق السماوات والأرض إلى الله لا يختلف عن جواب تلميذ من تلاميذ فن التاريخ , يقال له:من بنى هذا القصر العتيق ? فيسمي ملكا من الملوك الأقدمين من غير أن يخافه ويخضع له ; فكان دينهم عارياً عن الخشوع لله ودعائه , وما كانوا يعرفون عن الله ما يحببه إليهم , فكانت معرفتهم مبهمة غامضة , قاصرة مجملة , لا تبعث في نفوسهم هيبة ولا محبة . . .
. . . انتقل العرب والذين أسلموا من هذه المعرفة العليلة الغامضة الميتة إلى معرفة عميقة واضحة روحية ذاتسلطان على الروح والنفس والقلب والجوارح , ذات تأثير في الأخلاق والاجتماع , ذات سيطرة على الحياة وما يتصل بها . آمنوا بالله الذي له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى . آمنوا برب العالمين , الرحمن الرحيم , مالك يوم الدين , الملك , القدوس , السلام , المؤمن , المهيمن , العزيز , الجبار , المتكبر , الخالق , البارىء , المصور , العزيز , الحكيم , الغفور , الودود , الرؤوف , الرحيم , له الخلق والأمر , بيده ملكوت كل شيء , يجير ولا يجار عليه . . . إلى آخر ما جاء في القرآن من وصفه . يثيب بالجنة ويعذب بالنار , ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر , يعلم الخبء في السماوات والأرض , يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . إلى آخر ما جاء في القرآن من قدرته وتصرفه وعلمه . فانقلبت نفسيتهم بهذا الإيمان الواسع العميق الواضح انقلاباً عجيباً . فإذا آمن أحد بالله وشهد أن لا إله إلا الله انقلبت حياته ظهراً لبطن . تغلغل الإيمان في أحشائه وتسرب إلى جميع عروقه ومشاعره , وجرى منه مجرى الروح والدم , واقتلع جراثيم الجاهلية وجذورها , وغمر العقل والقلب بفيضانه , وجعل منه رجلا غير الرجل , وظهر منه من روائع الإيمان واليقين والصبر والشجاعة , ومن خوارق الأفعال والأخلاق ما حير العقل والفلسفة وتاريخ الأخلاق , ولا يزال موضع حيرة ودهشة منه إلى الأبد , وعجز العلم عن تعليله بشيء غير الإيمان الكامل العميق" .
"وكان هذا الإيمان مدرسة خلقية وتربية نفسية تملي على صاحبها الفضائل الخلقية من صرامة إرادة وقوة نفس , ومحاسبتها والإنصاف منها , وكان أقوى وازع عرفه تاريخ الأخلاق وعلم النفس عن الزلات الخلقية والسقطات البشرية , حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان , وسقط الإنسان سقطة وكان ذلك حيث لا تراقبه عين , ولا تتناوله يد القانون , تحول هذا الإيمان نفساً لوامة عنيفة , ووخزاً لاذعاً للضمير , وخيالاً مروعاً , لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون , ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة , ويتحملها مطمئناً مرتاحاً , تفادياً من سخط الله وعقوبة الآخرة " . .
" . . . وكان هذا الإيمان حارساً لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته , يملك نفسه النزّع أمام المطامع والشهوات الجارفة , وفي الخلوة والوحدة حيث لا يراه أحد , وفي سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحداً . وقد وقع في تاريخ الفتح الإسلامي من قضايا العفاف عند المغنم , وأداء الأمانات إلى أهلها , والإخلاص لله , ما يعجز التاريخ البشري عن نظائره , وما ذاك إلا نتيجة رسوخ الإيمان , ومراقبة الله واستحضار علمه في كل مكان وزمان" .
"وكانوا قبل هذا الإيمان في فوضى من الأفعال والأخلاق والسلوك والأخذ والترك والسياسة والاجتماع , لا يخضعون لسلطان , ولا يقرون بنظام , ولا ينخرطون في سلك , يسيرون على الأهواء , ويركبون العمياء , ويخبطون خبط عشواء . فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها , واعترفوا لله بالملك والسلطان , والأمر والنهي , ولأنفسهم بالرعوية والعبودية والطاعة المطلقة , وأعطوا من أنفسهم المقادة , واستسلموا للحكم الإلهي استسلاما كاملاً ووضعوا أوزارهم , وتنازلوا عن أهوائهم وأنانيتهم , وأصبحوا عبيداً لا يملكون مالاً ولا نفساً ولا تصرفاً في الحياة إلا ما يرضاه الله ويسمح به , لا يحاربون ولا يصالحون
إلا بإذن الله , ولا يرضون ولا يسخطون , ولا يعطون ولا يمنعون , ولا يصلون ولا يقطعون إلا بإذنه ووفق أمره" .
وهذا هو الإيمان الذي تشير إليه الآية وهي تصف الجماعة التي اختيرت لقيادة البشرية بهذه العقيدة . ومن مقضيات هذا الإيمان التوكل على الله . ولكن القرآن يفرد هذه الصفة بالذكر ويميزها:
(وعلى ربهم يتوكلون). .
وهذا التقديم والتأخير في تركيب الجملة يفيد قصر التوكل على ربهم دون سواه . والإيمان بالله الواحد يقتضي التوكل عليه دون سواه . فهذا هو التوحيد في أول صورة من صوره . إن المؤمن يؤمن بالله وصفاته , ويستيقن أنه لا أحد في هذا الوجود يفعل شيئاً إلا بمشيئته , وأنه لا شيء يقع في هذا الوجود إلا بإذنه . ومن ثم يقصر توكله عليه , ولا يتوجه في فعل ولا ترك لمن عداه .
وهذا الشعور ضروري لكل أحد , كي يقف رافع الرأس لا يحني رأسه إلا لله . مطمئن القلب لا يرجو ولا يرهب أحدا إلا الله . ثابت الجأش في الضراء ; قرير النفس في السراء , لا تستطيره نعماء ولا بأساء . . ولكن هذا الشعور أشد ضرورة للقائد , الذي يحتمل تبعة ارتياد الطريق .
وطهارة القلب , ونظافة السلوك من كبائر الإثم ومن الفواحش , أثر من آثار الإيمان الصحيح . وضرورة من ضرورات القيادة الراشدة . وما يبقى قلب على صفاء الإيمان ونقاوته وهو يقدم على كبائر الذنوب والمعاصي ولا يتجنبها . وما يصلح قلب للقيادة وقد فارقه صفاء الإيمان وطمسته المعصية وذهبت بنوره .
ولقد ارتفع الإيمان بالحساسية المرهفة في قلوب العصبة المؤمنة , حتى بلغت تلك الدرجة التي أشارت إليها المقتطفات السابقة [ ص 77 ] وأهلت الجماعة الأولى لقيادة البشرية قيادة غير مسبوقة ولا ملحوقة . ولكنها كالسهم يشير إلى النجم ليهتدي به من يشاء في معترك الشهوات !
والله يعلم ضعف هذا المخلوق البشري , فيجعل الحد الذي يصلح به للقيادة , والذي ينال معه ما عند الله , هو اجتناب كبائر الإثم والفواحش . لا صغائر الإثم والذنب . وتسعه رحمته بما يقع منه من هذه الصغائر , لأنه أعلم بطاقته . وهذا فضل من الله وسماحة ورحمة بهذا الإنسان ; توجب الحياء من الله , فالسماحة تخجل والعفو يثير في القلب الكريم معنى الحياء .
(وإذا ما غضبوا هم يغفرون). .
وتأتي هذه الصفة بعد الإشارة الخفية إلى سماحة الله مع الإنسان في ذنوبه وأخطائه , فتحبب في السماحة والمغفرة بين العباد . وتجعل صفة المؤمنين أنهم إذا ما غضبوا هم يغفرون .
وتتجلى سماحة الإسلام مرة أخرى مع النفس البشرية ; فهو لا يكلف الإنسان فوق طاقته . والله يعلم أن الغضب انفعال بشري ينبع من فطرته . وهو ليس شراً كله . فالغضب لله ولدينه وللحق والعدل غضب مطلوب وفيه الخير . ومن ثم لا يحرم الغضب في ذاته ولا يجعله خطيئة . بل يعترف بوجوده في الفطرة والطبيعة , فيعفي الإنسان من الحيرة والتمزق بين فطرته وأمر دينه . ولكنه في الوقت ذاته يقوده إلى أن يغلب غضبه , وأن يغفر
ويعفو , ويحسب له هذا صفة مثلى من صفات الإيمان المحببة . هذا مع أنه عرف عن رسول الله [ ص ] أنه لم يغضب لنفسه قط , إنما كان يغضب لله , فإذا غضب لله لم يقم لغضبه شيء . ولكن هذه درجة تلك النفس المحمدية العظيمة ; لا يكلف الله نفوس المؤمنين إياها . وإن كان يحببهم فيها . إنما يكتفي منهم بالمغفرة عند الغضب , والعفو عند القدرة , والاستعلاء على شعور الانتقام , ما دام الأمر في حدود الدائرة الشخصية المتعلقة بالأفراد .
فأزالوا العوائق التي تقوم بينهم وبين ربهم . أزالوا هذه العوائق الكامنة في النفس دون الوصول . وما يقوم بين النفس وربها إلا عوائق من نفسها . عوائق من شهواتها ونزواتها . عوائق من وجودها هي وتشبثها بذاتها . فأما حين تخلص من هذا كله فإنها تجد الطريق إلى ربها مفتوحاً وموصولا . وحينئذ تستجيب بلا عائق . تستجيب بكلياتها . ولا تقف أمام كل تكليف بعائق من هوى يمنعها . . وهذه هي الاستجابة في عمومها . . ثم أخذ يفصل بعض هذه الاستجابة:
(وأقاموا الصلاة . . )
وللصلاة في هذا الدين مكانة عظمى , فهي التالية للقاعدة الأولى فيه . قاعدة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وهي صورة الاستجابة الأولى لله . وهي الصلة بين العبد وربه . وهي مظهر المساواة بين العباد في الصف الواحد ركعاً سجداً , لا يرتفع رأس على رأس , ولا تتقدم رجل على رجل !
ولعله من هذا الجانب أتبع إقامة الصلاة بصفة الشورى - قبل أن يذكر الزكاة:
(وأمرهم شورى بينهم)
والتعبير يجعل أمرهم كله شورى , ليصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة . وهو كما قلنا نص مكي . كان قبل قيام الدولة الإسلامية . فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين . إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها , ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم فيها بعد .
والواقع أن الدولة في الإسلام ليست سوى إفراز طبيعي للجماعة وخصائصها الذاتية . والجماعة تتضمن الدولة وتنهض وإياها بتحقيق المنهج الإسلامي وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية .
ومن ثم كان طابع الشورى في الجماعة مبكراً , وكان مدلوله أوسع وأعمق من محيط الدولة وشؤون الحكم فيها . إنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية , وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية . وهي من ألزم صفات القيادة .
أما الشكل الذي تتم به الشورى فليس مصبوباً في قالب حديدي ; فهو متروك للصورة الملائمة لكل بيئة وزمان , لتحقيق ذلك الطابع في حياة الجماعة الإسلامية . والنظم الإسلامية كلها ليست أشكالاً جامدة , وليست نصوصاً حرفية , إنما هي قبل كل شيء روح ينشأ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب , وتكيف الشعور والسلوك بهذه الحقيقة . والبحث في أشكال الأنظمة الإسلامية دون الاهتمام بحقيقة الإيمان الكامنة وراءها لا يؤدي إلى شيء . . وليس هذا كلاماً عائماً غير مضبوط كما قد يبدو لأول وهلة لمن لا يعرف حقيقة الإيمان بالعقيدة الإسلامية . فهذه العقيدة - في أصولها الاعتقادية البحتة , وقبل أي التفات إلى الأنظمة فيها - تحوي حقائق نفسية وعقلية هي في ذاتها شيء له وجود وفاعلية وأثر في الكيان البشري , يهيىء لإفراز أشكال معينة من النظم وأوضاع معينة في الحياة البشرية ; ثم تجيء النصوص بعد ذلك مشيرة إلى هذه الأشكال والأوضاع , لمجرد تنظيمها لا لخلقها
وإنشائها . ولكي يقوم أي شكل من أشكال النظم الإسلامية , لا بد قبلها من وجود مسلمين , ومن وجود إيمان ذي فاعلية وأثر . والإ فكل الأشكال التنظيمية لا تفي بالحاجة , ولا تحقق نظاماً يصح وصفه بأنه إسلامي . .
ومتى وجد المسلمون حقاً , ووجد الإيمان في قلوبهم بحقيقته , نشأ النظام الإسلامي نشأة ذاتية , وقامت صورة منه تناسب هؤلاء المسلمين وبيئتهم وأحوالهم كلها ; وتحقق المبادىء الإسلامية الكلية خير تحقيق .
(ومما رزقناهم ينفقون). .
وهو نص مبكر كذلك على تحديد فرائض الزكاة التي حددت في السنة الثانية من الهجرة . ولكن الإنفاق العام من رزق الله كان توجيهاً مبكراً في حياة الجماعة الإسلامية . بل إنه ولد مع مولدها .
ولا بد للدعوة من الإنفاق . لا بد منه تطهيراً للقلب من الشح , واستعلاء على حب الملك , وثقة بما عند الله . وكل هذه ضرورية لاستكمال معنى الإيمان . ثم إنها ضرورية كذلك لحياة الجماعة . فالدعوة كفاح . ولا بد من التكافل في هذا الكفاح وجرائره وآثاره . وأحياناً يكون هذا التكافل كاملاً بحيث لا يبقى لأحد مال متميز . كما حدث في أول العهد بهجرة المهاجرين من مكة , ونزولهم على إخوانهم في المدينة . حتى إذا هدأت حدة الظروف وضعت الأسس الدائمة للإنفاق في الزكاة .
وعلى أية حال فالإنفاق في عمومه سمة من سمات الجماعة المؤمنة المختارة للقيادة بهذه الصفات . .
وذكر هذه الصفة في القرآن المكي ذو دلالة خاصة كما سلف . فهي تقرير لصفة أساسية في الجماعة المسلمة . صفة الانتصار من البغي , وعدم الخضوع للظلم . وهذا طبيعي بالنسبة لجماعة أخرجت للناس لتكون خير أمة . لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر , وتهيمن على حياة البشرية بالحق والعدل ; وهي عزيزة بالله . (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين). . فمن طبيعة هذه الجماعة ووظيفتها أن تنتصر من البغي وأن تدفع العدوان . وإذا كانت هناك فترة اقتضت لأسباب محلية في مكة , ولمقتضيات تربوية في حياة المسلمين الأوائل من العرب خاصة , أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة , فذلك أمر عارض لا يتعلق بخصائص الجماعة الثابتة الأصيلة .
ولقد كانت هنالك أسباب خاصة لاختيار أسلوب المسالمة والصبر في العهد المكي:
منها أن إيذاء المسلمين الأوائل وفتنتهم عن دينهم لم تكن تصدر من هيئة مسيطرة على الجماعة . فالوضع السياسي والاجتماعي في الجزيرة كان وضعاً قبلياً مخلخلاً . ومن ثم كان الذين يتولون إيذاء الفرد المسلم هم خاصة أهله إن كان ذا نسب , ولم يكن أحد غير خاصة أهله يجرؤ على إيذائه - ولم يقع إلا في الندرة أن وقع اعتداء جماعي على فرد مسلم أو على المسلمين كجماعة - كما كان السادة يؤذون مواليهم إلى أن يشتريهم المسلمون ويعتقوهم فلا يجرؤ أحد على إيذائهم غالباً . ولم يكن الرسول [ ص ] يحب أن تقع معركة في كل بيت بين الفرد المسلم من هذا البيت والذين لم يسلموا بعد . والمسالمة كانت أقرب إلى إلانة القلوب من المخاشنة .
ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة نخوة تثور لصاحب الحق الذي يقع عليه الأذى . واحتمال المسلمين للأذى وصبرهم على عقيدتهم , كان أقرب إلى استثارة هذه النخوة في صف الإسلام والمسلمين . وهذا ما حدث بالقياس إلى حادث الشعب وحصر بني هاشم فيه . فقد ثارت النخوة ضد هذا الحصار , ومزقت العهد الذي حوته الصحيفة , ونقضت هذا العهد الجائر .
ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة حرب ومسارعة إلى السيف , وأعصاب متوفزة لا تخضع لنظام . والتوازنفي الشخصية الإسلامية كان يقتضي كبح جماح هذا التوفز الدائم , وإخضاعها لهدف , وتعويدها الصبر وضبط الأعصاب . مع إشعار النفوس باستعلاء العقيدة على كل نزوة وعلى كل مغنم . ومن ثم كانت الدعوة إلى الصبر على الأذى متفقة مع منهج التربية الذي يهدف إلى التوازن في الشخصية الإسلامية , وتعليمها الصبر والثبات والمضي في الطريق .
فهذه الاعتبارات وأمثالها قد اقتضت سياسة المسالمة والصبر في مكة . مع تقرير الطابع الأساسي الدائم للجماعة المسلمة:(والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون).
(وجزاء سيئة سيئة مثلها). .
فهذا هو الأصل في الجزاء . مقابلة السيئة بالسيئة , كي لا يتبجح الشر ويطغى , حين لا يجد رادعاً يكفه عن الإفساد في الأرض فيمضي وهو آمن مطمئن !
(فمن عفا وأصلح فأجره على الله , إنه لا يحب الظالمين) ذلك مع استحباب العفو ابتغاء أجر الله وإصلاح النفس من الغيظ , وإصلاح الجماعة من الأحقاد . وهو استثناء من تلك القاعدة . والعفو لا يكون إلا مع المقدرة على جزاء السيئة بالسيئة . فهنا يكون للعفو وزنه ووقعه في إصلاح المعتدي والمسامح سواء . فالمعتدي حين يشعر بأن العفو جاء سماحة ولم يجىء ضعفا يخجل ويستحيي , ويحس بأن خصمه الذي عفا هو الأعلى . والقوي الذي يعفو تصفو نفسه وتعلو . فالعفو عندئذ خير لهذا وهذا . ولا كذلك عند الضعف والعجز . وما يجوز أن يذكر العفو عند العجز . فليس له ثمة وجود . وهو شر يطمع المعتدي ويذل المعتدى عليه , وينشر في الأرض الفساد !
(إنه لا يحب الظالمين). .
وهذا توكيد للقاعدة الأولى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها)من ناحية . وإيحاء بالوقوف عند رد المساءة أو العفو عنها . وعدم تجاوز الحد في الاعتداء , من ناحية أخرى .
(ولمن انتصر بعد ظلمه , فأولئك ما عليهم من سبيل . إنما السبيل على الذين يظلمون الناس , ويبغون في الأرض بغير الحق . أولئك لهم عذاب أليم). .
فالذي ينتصر بعد ظلمه , ويجزي السيئة بالسيئة , ولا يعتدي , ليس عليه من جناح . وهو يزاول حقه المشروع . فما لأحد عليه من سلطان . ولا يجوز أن يقف في طريقه أحد
(ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور). .
ومجموعة النصوص في هذه القضية تصور الاعتدال والتوازن بين الاتجاهين ; وتحرص على صيانة النفس من الحقد والغيظ , ومن الضعف والذل , ومن الجور والبغي , وتعلقها بالله ورضاه في كل حال . وتجعل الصبر
زاد الرحلة الأصيل .
ومجموعة صفات المؤمنين ترسم طابعاً مميزاً للجماعة التي تقود البشرية وترجو ما عند الله وهو خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون . .
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول