تعقيب على فتوى المجلس الإسلامي الخاصة بزواج المجاهيل

-1-

أصدر المجلس الإسلامي السوري قبل مدة من الزمن فتوى رصينة جامعة تحذّر من تزويج المجاهيل. وقد حفلت الفتوى بالتوجيهات الاجتماعية والتربوية الثمينة وأسهبت في توضيح الأضرار والأخطار التي تنشأ عن تلك الزيجات وتصيب الزوجات والأولاد والمجتمع برمّته، ولكنها ترددت في التحريم الجازم ممّا ضعّف من قيمتها وتأثيرها في حياة الناس، فأتمنى أن يعيد المجلس دراسة هذه المسألة الخطيرة ويُخرج فتوى واضحة ليس فيها إبهام أو إيهام، فتوى قاطعة بالمنع والتحريم والتجريم.

جاءت في الفتوى عباراتٌ تفيد المنع والتأثيم، كقولهم: "وبناء على ذلك فلا يجوز للولي ولا للمرأة الموافقةُ على الزواج ممّن يخفي اسمه ونسبه"، وقولهم: "وإذا كان هذا النكاح محرّماً فإنه يشترك في الإثم المترتب عليه كلُّ مَن شارك في هذا النكاح".

وجاءت عبارات تفيد بصحّة الزواج من الناحية الشرعية، كقولهم: "فإذا تمّ الزواج بعد توفر أركانه وشروطه فهو زواج صحيح مع الإثم"، وقولهم: "إن تعيين الزوج بشخصه ووصفه دون معرفة حقيقة اسمه ونسبه لا يبطل الزواج شرعاً، لأنه قد حصل تعيينُه بعينه ووصفه".

وقد جاء الاضطراب الظاهري في الفتوى بسبب حرص المجلس على منع هذه الظاهرة السلبية ومحاصرتها، مع عدم معارضة إجازة الفقهاء لزواج مجهول الاسم والنسب إذا كان معلومَ العين والذات. وأنا لست من طبقة علماء المجلس الكرام ولا أرتقي إلى مقامهم الرفيع في العلم، ولكني أجد من واجبي التعقيب والاستدراك على الفتوى بملاحظة صغيرة، ليست ملاحظةً على أصل الحكم، وإنما هي على إسقاطه وتحقيق مناطه في الحالة السورية الحاضرة.

-2-

إن الحكم الأصلي بصحة زواج مجهول الاسم إذا كان معروفَ العين والذات صحيحٌ وضروري لأنه يعالج حالات مجتمَعية لا يخلو منها زمان، كاللقطاء وأبناء السفاح الذين لا يُعرَف آباؤهم، والأيتام الصغار الذين يَنْجون من الموت في الكوارث العامة، كالحروب والزلازل، ثم لا يُعرَف أبناءُ مَن أولئك الناجون، وهؤلاء جميعاً لا يمكن حرمانهم من الزواج بسبب جهالة الآباء والأنساب.

على أننا نلاحظ في تلك الحالات (التي من أجلها نشأ الحكم الأصلي) أن الصغير يعيش في مجتمع مترابط يعرف بعضُه بعضاً، وهو ينشأ -غالباً- في حضانة ورعاية عشائر وأُسَر معروفة فيُنسَب إليها بالولاء، ويصبح معروفَ العين والذات والحال ولو ضاع اسمُه ونسبه؛ يُعرَف دينُه وخلقه وماضيه وحاضره وتُعرَف شخصيته وطباعه وسجاياه، فلا يُجهَل فيه غير الاسم والأصل، وعندئذ يصحّ في ولده -إذا تزوج وأنجب- ما ورد في فتوى المجلس الإسلامي: "يُنسَب هذا الولد لأبيه باسمه الذي اشتهر فيه بين الناس لأنه قام مقام اسمه، فبه يُعرف وبه يُدعى".

لكن هذه الحالة مختلفة تماماً عن حالة الأغراب الذين يأتون إلى سوريا في جهالة تامة، فلا يُعرَف لأحدهم اسم ولا أصل ولا ماضٍ ولا حاضر ولا يُعرَف دينه وخلقه ولا تُعرَف شخصيته وسجاياه، بل إنه قد يكون عميلاً مدسوساً على الثورة والجهاد، وربما كان نصيرياً أو نصرانياً أو شيعياً أو ملحداً بلا دين.

-3-

إننا نعلم أن التنظيمات الجهادية من أكثر البيئات اختراقاً ونستطيع أن نجزم بأن العملاء ينخرونها مثل السوس، فلماذا تنجو من الاختراق جماعاتُ الغلاة في سوريا ولم تَنجُ منه أمثالُها في غير سوريا من البلدان وفي غير هذا الزمان من الأزمان؟ إن ما لا نعرفه عن اختراق أجهزة المخابرات الدولية لتلك التنظيمات كثير، ولكنّ ما نعرفه -على قلّته- كافٍ لإثارة الفزع ولتحريم زواج المجاهيل وإغلاق هذا الباب بإحكام.

هذه المقالة ليست مخصصة لإحصاء اختراقات الأعداء للتنظيمات الجهادية، لذلك سأكتفي بذكر مثالين شهيرين يعرفهما مؤرخو القاعدة والجماعات الجهادية، أولهما: العميل الدنمركي الملحد الذي اخترق تنظيم القاعدة في اليمن ووصل إلى مراكز قيادية عليا، مورتن ستورم (أو مراد ستورم أو أبو مجاهد أو أبو عمر الناصري) وهو الذي تسبب في اغتيال القيادي القاعدي أنور العولقي. والثاني: العميل الإيراني الشيعي محفوظ طاجين، الذي اخترق الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر (الجيا) حتى صار أميراً عاماً للتنظيم بعد مقتل شريف قوسمي في أيلول عام 1994.

ولماذا نذهب بعيداً وننسى ما صنعه نظام الأسد؟ ألم تخترق المخابرات السورية -قبل خمس عشرة سنة- الجماعات الجهادية بأبي القعقاع، محمود قول أغاسي، الذي أمضى سنوات وهو يجنّد الجهاديين ويرسلهم إلى العراق قبل أن تنكشف علاقته باللواء حسن خليل مدير شعبة الاستخبارات العسكرية واللواء ديب زيتون مدير جهاز أمن الدولة في ذلك الوقت؟

وما أدرانا كم مِن العملاء والجواسيس زرعت الأجهزةُ الأمنية الأسدية في جماعات الغلاة في الثورة السورية؟ لقد تضمنّت إحدى الوثائق التي نشرتها "ويكيليكس" تسجيلاً لمقابلة بين علي مملوك ومنسّق مكافحة الإرهاب الأمريكي، قال فيه مملوك: "نحن لدنيا ثلاثون سنة من الخبرة مع التنظيمات الجهادية، إننا نزرع عملاءنا بينهم ونساعدهم للوصول إلى مراكز قيادية". فكيف نضمن أن لا يكون الزوج المجهول الذي تقدم للزواج بواحدة من بناتنا واحداً من أولئك العملاء؟

-4-

النتيجة التي أريد الوصول إليها بعد هذا الاستطراد الطويل: إن الحكم بصحة زواج مجهول الاسم والنسب صحيح إذا كان الرجل معروفَ العين والذات، ولكنّ المعرفة المقصودة لا تقوم بمعرفة حاضر الرجل وصفاته الظاهرة فحسب، بل لا بد من معرفة ماضيه وحقيقته الباطنة، فمَن أخفى ماضيَه واسمَه واسمَ أبيه وأسرته وعشيرته يمكن أن يُخفي معتقداته وارتباطاته وعلاقاته، وربما كان عميلاً مدسوساً، وربما لم يكن أصلاً من المسلمين.

وعليه فإن الفتوى التي أتمنى أن تصدر عن المجلس الإسلامي هي التحريم القطعي لزواج المجاهيل الذين يأتون إلى سوريا مُنْبَتّين عن أصولهم ومَواضيهم وكأنهم ثمار نبتت بلا أشجار، فلا يقال "إن هذا الزواج صحيح مع الإثم إذا توفرت أركانه وشروطه"، لأنه يفتقر إلى تحقيق أحد أهم شروط النكاح الصحيح وهو تعيين الزوجين بالمعنى الشرعي والعرفي المعتبَر. ولا يقال "إن تعيين الزوج بشخصه ووصفه دون معرفة حقيقة اسمه ونسبه لا يبطل الزواج شرعاً لأنه قد حصل تعيينه بعينه ووصفه"، لأن أبا القعقاع العراقي وأبا خزيمة المصري وأبا المغيرة التركستاني لا يمكن أن يكونوا معروفي العين والذات ولو عُرفت أشكالهم وأوصافهم، فما أدرانا أنّ أياً منهم ليس عميلاً من عملاء المخابرات الأسدية أو الروسية أو الإيرانية أو الإسرائيلية؟ ما أدرانا أن هذا الرجل الذي يُظهر الإسلام ويتظاهر بالجهاد ليس سوى عميل مدسوس وعدو للجهاد والإسلام والمسلمين؟

-5-

الخلاصة: ربما كانت الصيغة المُثلى لفتوى زواج المجاهيل في سوريا هي: "إن زواج مجهول الاسم والنسب زواج محرَّم، يَحْرُم عقده ابتداءً، ومَن عقَده فإنه آثم، ولو تمّ فإنه يعتبر نكاحاً فاسداً، فإنْ أمكن تداركه قبل الحمل وجب على القاضي فسخُه وإمضاء ما يترتب عليه من نفقة وعدّة، وإن تَمّ الحمل وتمّ الفسخ وجبت العدة والنفقة ووجب إثبات نسب الولد إلى أبيه بأكثر استقصاء ممكن".

هذه الصيغة الجازمة من شأنها أن تُخيف أولياء الأمور، فيخشوا من الوقوع في الحرام ويُعرضوا عن تزويج المجاهيل (أو يُعرض عنه أكثرهم)، بخلاف ما لو قيل لهم إنه زواج صحيح مع الإثم وإن تعيين الزوج بشخصه ووصفه دون معرفة اسمه ونسبه لا يبطل الزواج شرعاً.

واعتبارُ النكاح فاسداً لاختلال أحد شروطه فيه وجاهة (رغم أن هذا المصطلح غيرُ محرَّر بصورة جازمة، حتى عند الأحناف) وهو يمنح السلطة القضائية فسحة للتدخل وفسخ النكاح حتى بعد نفاده. قال ابن قدامة في "المغني": "وإذا تزوجت المرأة تزويجاً فاسداً لم يَجُزْ تزويجها لغير مَن تزوجها حتى يطلقها أو يفسخ نكاحها، وإذا امتنع من طلاقها فسخَ الحاكمُ نكاحه، نَصّ عليه أحمد. وقال الشافعي: لا حاجة إلى فسخ ولا طلاق لأنه نكاح غير منعقد، أشبه النكاح في العدة". وقال الكاساني فى "البدائع": "وأما النكاح الفاسد فلا حكم له قبل الدخول، وأما بعد الدخول فتتعلق به أحكام منها ثبوت النسب ومنها وجوب العدّة ومنها وجوب المهر. والأصل فيه أن النكاح الفاسد ليس بنكاح حقيقة لانعدام محلّه..." إلى أن يقول: "فجُعل منعقداً في حق المنافع المستوفاة لهذه الضرورة، ولا ضرورة قبل استيفاء المنافع، وهو ما قبل الدخول، فلا يُجعَل منعقداً قبله".

* * *

أسأل الله أن ينجّي بناتنا وبنات المسلمين في كل مصر وعصر من هذا الزواج المشبوه ومن آثاره الضارّة، وأن يحفظهنّ من كل مكروه.

فتوى المجلس الإسلامي السوري هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين