
درسنا في صغرنا أنَّ الأمَّة بلا تاريخٍ كالشَّجرة بلا جذورٍ، ولـمَّا كبرنا تعلَّمنا أنَّ تاريخنا هو شرُفنا، وأنَّ ماضينا هو مبعثُ عزِّنا وسَنَامُ فخرنا، وأدركنا أنَّ الأمَّة التي لا تحترمُ تاريخها لا تستحقُّ أن تعيش حاضرها، ولن تستطيع بناء مستقبلها.
إنَّ التَّاريخ مرآةُ الأمم، وهو السِّجلُّ الأمين الذي يحفظ لأيِّ أمَّةٍ تراثَها وثقافتها، ويُخلِّد سيرَ عظمائها وإنجازات حضارتها.
والأمورُ إلى هذا الحدِّ موضعُ اتَّفاقِ أولي الألباب، وإجماعِ ذوي الحكمة والصَّواب، ولكنَّ المشكلة تبدأ حين ترفضُ بعض العقول السَّخيفة والهمم الضَّعيفة أن تغادر محطَّة التَّاريخ متقدِّمةً إلى الأمام قليلاً حيث الحاضر المعاش والمستقبل المرتقب.
قال لي صاحبي: لقد صنع أجدادُنا الأعاجيبَ وفعلوا المعجزات، فقلتُ له: وماذا فعلنا نحنُ حتَّى يتحدَّث أحفادُنا عنَّا بمثل ما نتحدَّثُ به عن أجدادنا.
اسمع يا صاحبي إنَّ النَّاس في تعاملهم الخاطئ مع التَّاريخ على صنفين:
- صنفٌ: لم يجدوا في كلِّ مآثر تاريخهم ما يرفعون به رؤوسهم أو يطلقون حناجرهم فسلقوه بألسنةٍ حدادٍ، وسوَّدوا الصَّحائف بسبِّه وشَتمه.
فمرَّةً تُشنُّ الحملات على معاوية - رضي الله عنه - وكأنَّه لم يَحُز صحبةً أو يكتب وحياً، ومرَّةً على استبداد الدَّولتين الأمويَّة والعبَّاسيَّة وخلفائهما وننسى أنَّ الفتوحات في عهدهما بلغت مشارقَ الأرض ومغاربَها، ومرَّةً على أمراض العثمانيِّين وفساد سلاطينهم والمنصف يعلم كم عاد الحقد خائباً خاسئاً إلى جحره في سنوات حكمهم، ومرَّةً .. ومرَّةً، وهكذا يكون التَّاريخ في نظرهم سواداً في سواد.
- وصنفٌ: نصبوا من صفحات التَّاريخ محاريبَ للعبادة والتَّقديس، فهو معصومٌ من وقوع الزَّلل ومنزَّهٌ عن طروء الخلل، وربَّما غالى بعضهم إلى حدِّ قذف الحاضر والتَّشاؤم من المستقبل؛ لأنَّهما لم يصلا في نظره إلى الصُّورة التي رسمها في ذهنه عن التَّاريخ.
إنَّهم صنفٌ يعيشون في كهف التَّاريخ، وينامون على حكاياته، ويسرحون في أحلامه، ولو أنَّك أيقظت أحدهم على سؤالٍ: أين موضعُ قدمكَ وبصمةُ يدكَ في حاضرك؟ لنظر إليك نظر المغشيِّ عليه من الموت، ولربَّما رماك بقوالب التُّهم.
والحقُّ أنَّ حال الفريقين لا يخلو من إفراطٍ وتفريطٍ، فالأوَّل هجر الإنصاف، والثَّاني وقع في الإسراف.
وإنَّ العاقل من يقول: بأنَّ التَّاريخ مدرسةٌ تتعلَّمُ منها الأجيال، وتُصقَلُ بها التَّجارِب، وتُحصَّن الأفكار.
ولاحظوا مثلاً كيف يُخاطبُ القرءان الكريم في سورة: (البقرة) يهودَ المدينة بتفاصيل تاريخ أجدادهم من بني إسرائيل وكأنَّها حدثت معهم هم، وهم وحدهم المسؤولون عنها.
ولاحظوا أيضاً كيف تُختم كثيرٌ من الآيات التي تتحدَّث عن الأقوام السَّابقين بكلمة: (فانظر، فانظروا) لتنبِّه الأجيال إلى فريضة: الاعتبار والتأمُّل. (قد خلت من قبلكم سُننٌ فسيروا في الأرضِ فانظروا كيفَ كانَ عاقبةُ المكذِّبين) (آل عمران: 137).
اقرؤوا التَّاريخ إذ فيه العبر ... ضلَّ قومٌ ليس يدرون الخبر
أقول مخاطباً الصِّنف الأوَّل والحَيرة تأخذُ بلبِّي : ألم يبقَ من مواضع الضَّعف في حاضرنا والتَّخطيط لمستقبلنا ما نملؤه حتَّى نتفرَّغ لجلد تاريخنا وتسويد مآثره، وهل قصَّرت أقلام أعدائنا في تشويه هذا التَّاريخ يا تُرى حتى نُكمل المهمَّة نحن.
ثمَّ من يضمن لنا ألَّا يأتي بعدنا جيلٌ يشتم حاضرنا، ويسفِّه أحلامنا، ويقذف أيَّامنا، وكأنَّ الأمَّة لم تُخرِّج آلاف العلماء، ولم تُقدِّم ملايين الشُّهداء، أوليس الحاضرُ هو تاريخ الغد.
وأقول للصِّنف الآخر: إنَّه يكفي لقتل أمَّةٍ أن تشغلها بأمجاد الماضي وتُقنعها بظلام المستقبل، وكأنَّك تقول: (الخيرُ فيمن مضى، والشَّرُّ فيمن سيأتي).
لقد عاش أجدادنا لزمانهم فهل عشنا لزماننا؟ ولقد تركوا لنا تراثاً عظيماً ومجداً تليداً فماذا فعلنا للحفاظ عليهما وتوريثهما لمن بعدنا؟
لا تقل أصلي وفصــــلي أبداً ... إنَّما أصل الفتى ما قد حصل
وأيضاً:
ليس الفتى من قال كان أبي ... إنَّ الفتى من قال: ها أنا ذا
وفي الختام أقول: إنَّه ثمَّة منزلةٌ وسطى بين تأليه التَّاريخ وبين تكفيره وهي: أن نتَّخذَ من دروسه سلَّماً نرتقي من خلاله إلى صناعة "المستقبل".
إنَّنا بحاجةٍ إلى ثقافة "الآن" فأين أصحابُ الهِمَم؟!
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول