بين احتلال فرنسا واحتلالهم...!

   أما المضاف الأول،فقد عرفنا ما أضيف إليه،لكن المضاف الثاني أضفته لضمير لم يسبق له ذكر صريح من قبل حتى يعود إليه،كما هو الأصل في ذلك،فلم عمّيت هذه التعمية،ولم أبهمت هذا الإبهام؟!

   نعم حُق لكم أن تستشكلوا وأن تستغربوا..وها أنا ذا قد بريت قلمي،لتذرف دموعه الحانية بالجواب،وأيقظت فكري ليُملي عليّ السداد والصواب...
   صنعت هذا الصنيع الغريب،وسلكت هذا المسلك العجيب لأمرين:
 
   الأول:لئلا أشرفهم بالعنوان،لأن إظهارهم فيه تشريف،وهم أبعد ما يكونون عن كل كرامة ومكانة،فكانوا أولى بالإضمار..وفرنسا أخلق بالإظهار؛لأنها بأعدائها أحنى وأشفق،وأرحم وأرفق،فكيف يكون حالها مع أصدقائها وبني جلدتها..؟!
 
   الثاني:أن المضمر من البيان بمكان بحيث لا يغيب الساعة إلا عن جنين أو وليد ..فقولي:(احتلال فرنسا واحتلالهم) ينادي أن الضمير الحقير لا يرجع إلا إلى شرذمة الأسد..لأن المضمر قد يكون معروفاً بخصال البر والخير والمكانة والكرامة كعَلَم فوقه نار,وقد يكون موسوماً بصفات الشر والخبث والظلم والعدوان كماء آجن جمع شتى القذر و أخبث النجاسات ..!!
 
   ولا يقولنّ قائل معاتباً: قد بالغت وقد ظلمت,فاشهد بالقسط ولا يجرمنك شنآنهم ألا تعدل في حقهم,اعدل هو أقرب للتقوى..لأني سأحشد جيشاً من الأدلة والبراهين على ما أدعي ..ألا فخذوها:
 
   _الاحتلال الفرنسي دام ربع قرن من الزمان,لكن الاحتلال الأسدي مضى عليه نحو من نصف قرن..فهو مضاعف,وقد أنهك الأمة والوطن بمقدار تضاعفه..إذن الاحتلال الأول كان_مع شره_أقل ضرراً وأخف سوءاً..ومن قتل بأيدي الفرنسيين أقل بكثير ممن قُتل بمعاول عصابة الأسد..ففي حماة قُتل خمسون ألفاً وفي هذه الثورة قتل ما يربو على الثلاثين ألفاً ولا ندري كم سيُقتل أيضاً؟ عدا عن المفقودين والمشردين..وكل ذلك لم يقع وقت الاحتلال الفرنسي,بل كان الناس آمنين مطمئنين في بيوتهم ومدنهم..!! فأي الفريقين أحق بالذم أكثر؟! فهذه واحدة!
 
   _أولئك-أعني الفرنسيين-خربوا لكنهم عمروا أيضاً بل كان عمارهم أكثر من خرابهم..ولعلي بغنى عن الدليل في هذا فالواقع يضج بألف دليل..
   يقول آباؤنا الذين أدركوا الفرنسيين:إن فرنسا كانت حريصة على غوطة دمشق حرصها على باريس,فكانت تمنع قطع الأشجار وخاصة المعمر منها كالزيتون والجوز وتفرض عقوبات رادعة على عاقريها,كما كانت تحظر إنشاء المعامل فيها وكل ما يضرها ويؤذيها,فازدادت الغوطة في زمن احتلالهم بهاء وجمالاً,فكانت يسير الراكب أو الماشي في ظلالها الوارفة أميالاً لا تبصره عين الشمس إلا غمزاً,ولا يناديه نور القمر إلا همساً..
 
   ولما تبحر العمران في دمشق وضواحيها,وضع الفرنسيون الخطط لحماية الغوطة,لئلا يجتاحها البناء فأرشدوا الناس إلى التوجه لأرض خلاء جنوباً وغرباً..فأي حرص هذا؟! وأي ذوق رفيع هذا؟!
 
   وأما الاحتلال الأسدي,فأهل دمشق وغوطتها وأطرافها أدرى بما صنع ويصنع الآن..معامل الفساد في الغوطة..مواطن الفحش والفجور في الغوطة..ثكنات الجيش الأسدي في الغوطة..مستودعات اللصوص في الغوطة..حتى تجردت من ثوبها الأخضر ونضب ماؤها المعين وكادت تتصحر..فأي جريمة هذه؟! وأي اعتداء هذا؟!
 
   إني لأقول إن كل ما دمره هؤلاء المفسدون يمكن ترميمه وإصلاحه إلا الغوطة البائسة الحزينة,فإنه من العسير أن تعود الحياة إلى أشجار معمرة عقرت,أو إلى بقاع من الأرض خصبة غدت أكواماً من الحجر و(الإسمنت)!!
 
   وإني لأصدقكم القول أني لا أسلك طرق الغوطة أبداً إلا مضطراً وعندما أسلك طريقاً أصوّب نظري أمامي ولا ألتفت يمنة ولا يسرة لئلا يدمى قلبي مما أراه..!
 
   ثم ماذا سيقول الشعراء الذين أطارت ألبابهم دمشق وغوطتها ونهرها فقالوا من الشعر فيها ما قالوا؟! ماذا سيقولون اليوم عندما يرون ما نراه نحن؟!
 
   أين حالها اليوم من حالها يوم قال فيها أحمد شوقي:
 
    سلام من صبا بردى أرق....ودمعٌ لا يُكَفكف يا دمشق
   ومعذرة اليراعة والقوافي.......جلال الرزء عن وصف يدق
   وبي مما رمتك به الليالي.....جراحات لها في القلب عمق
 
   قال هذه القصيدة في عدوان الفرنسيين سنة(1926) وهي اليوم أشد انطباقاً على هؤلاء المجرمين المفسدين...!
 
 وكيف سيصفها اليوم إيليا أبو ماضي الذي قال فيها بالأمس:
 
    حيِّ الشآم مهنداً وكتاباً......والغوطة الخضراء والمحرابا
     ليست قباباً ما رأيت وإنما.....عزم تمرّد فاستطال قبابا
     بردى ذكرتك للعطاش فارتووا..وبني النهى فترشّفوك رضابا
 
   وهذه ثانية!
   _الفرنسيون المحتلون عُنوا بالآثار والمعالم التي تجمل البلد وتبرز حضارتها وحافظوا عليها,لكن الاحتلال الأسدي سرق كثيراً من الآثار و التحف التي يمكن نقلها..وما نهبه المجرم الطليق واللص الصفيق رفعت الأسد,لا يمكنه تخيله..وخاصة من الركاز والذهب المخبوء في باطن الأرض..!وإلا فمن أين تراكمت بين يدي هذا الصعلوك هذه الأموال الطائلة،وهذه التجارات الضخمة من وراء البحار؟! كيف غدت عائلة الصعاليك في لمح البصر تُباري وتُجاري  
 
أشراف التجار؟!
   ومن أين لعائلة مخلوف أن تحوز ثلاثة أرباع الشركات في سورية وأصولهم معرقة في التخلف والانحطاط..متى كان المتسولون ملاكاً وتجاراً ؟!! وقل مثل ذلك في أقاربهم وحواشيهم و من يلحق بهم و مثل ذلك في ضباطهم الذين جعلوا الجيش بقرة حلوباً ومطية ذلولاً يمتصون دماء الناس و أموالهم ويتخذون أبناءهم خدماً لهم,حتى صار هؤلاء الضباط اللصوص تجاراً..وهم من أراذل الناس..!!وهذه ثالثة!
 
   _الفرنسيون المعتدون_على سوئهم_كانوا يعظمون شعائر الأمة و يحترمونها,فلم يُعهد عنهم أنهم دمروا مسجداً أو دنسوه,بل كان الناس إذا رجموا العسكر الفرنسي بالحجارة,فسعوا وراءهم ليضربوهم بالهروات فقط!!أو ليرهبوهم,يلوذون ببيوت الله فيقف العسكر خارج المسجد ولا ينتهكون حرمته !!
   وهذا ما حدث مع الشيخ محمد كريم راجح كما أخبر به على منبر جامع الحسن حين كان خطيباً فيه..!
   هذا التهيب من الفرنسيين يذكرني بكلمة للويس ماسنيون المستشرق الفرنسي حيث يقول:إن دخول مساجد المسلمين يبعث الهيبة في القلب ويقذف فيه حبهم ..!!
 
   أما الاحتلال الأسدي,فما صنعه في المساجد بل والكنائس والقلاع الأثرية والأسواق العريقة في أرجاء الوطن,لا يُعرف له نظير في تاريخ الإنسانية..فقد كانوا يتعمدون قصف المساجد التي يحتمي بها الأطفال والنساء ..!!
 
   لا أعلم له مشابهاً إلا في الذي فعله القرامطة الباطنية من قتل الآلاف من الحجيج يوم عرفة على صعيد عرفة وتدنيس الكعبة المشرفة وسرقة الحجر الأسود إلى هجر حتى انتزع من بين أيديهم..!! 
 
   وهذه رابعة!
 
   _الفرنسيون جاؤوا يُجاهرون باحتلالهم ولا يُخفونه,لذلك قصد غورو قبر صلاح الدين وركله بقدمه وهو يقول:ها قد عدنا يا صلاح الدين..! لكنه لم يدمر القبر مع حقده على صاحبه!
   وأما الاحتلال الأسدي فجاء باسم حماة الوطن وحماة الديار..ثم أباد العباد وخرب البلاد وأشاع الفساد ..!! وهذه خامسة وهناك سادسة وسابعة...!!
 
   بعد هذا كله أكنت ظالماً في قولي إن العصابة الأسدية أسوأ حالاً وأكثر إجراماً من الفرنسيين؟! أظن أن الجواب العدل سيكون: أنصفت وعدلت فلك الأجر على ما بذلت وكتبت...


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين