بعض سمات الدعوة في هذا العصر -4-



عني بتصحيحها ونشرها الشيخ مجد مكي


وليست قضية الأسماء والمصطلحات من البساطة بالمكان الذي يتصوره كثير من الناس، فإنها تؤثِّر في النفس تأثيراً خاصاً، وتثير معاني وأحاسيس ذات الصلة بالماضي، وذات الصلة بالعقائد والأعراف أحياناً، ولذلك كره رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أن يقال: (العتمة) مكان العشاء ، ويوم (العروبة) بدل الجمعة ، واستبدال كلمة يثرب بمدينة الرسول أو بالمدينة ، ولها أمثلة أخرى في الشريعة الإسلاميِّة.


وكذلك أحذركم -أيها الإخوان- مما لوحظ من بعض الكتَّاب من الضغط على أن هذه الأركان الدينيَّة وفرائض الإسلام، كالصلاة والزكاة والصيام والحج وسائل لا غايات، إنما شُرِعت لإقامة الحكم الإسلامي، وتنظيم المجتمع المسلم، وتقويته، وأحذِّركم من كلِّ ما يحطُّ من شأن روح العبادة، والصلة بين العبد وربه، وامتثال الأمر، ومن التوسُّع في بيان فوائدها الخلقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية أحياناً توسُّعاً يخيَّل للمخاطب أو القارئ أنها أساليب تربويّة أو عسكريّة أو تنظيميّة، قيمتها ما يعود منها على المجتمع من قوة ونظام، أو صحَّة بدنيَّة وفوائد طبيَّة، فإن أول أضرار هذا الأسلوب من التفكير أو التفسير أنه يفقد هذه العبادات قيمتها وقوتها، وهو امتثال أمر الله وطلب رضاه بذلك، والإيمان والاحتساب والقرب عند الله تعالى، وهي خسارة عظيمة لا تُعوض بأيِّ فائدة، وفراغ لا يملأ بأيِّ شيء في الدنيا.


والضرر الثاني: أنه لو توصَّل أحد المشرِّعين أو الحكماء المربِّين إلى أساليب أخرى قد تكون أنفع أو يخيل أنها أنفع لتحقيق هذه الأغراض الاجتماعيَّة أو التنظيميَّة أو الطبيَّة لاستغنى كثير من الذين آمنوا بهذه الفوائد عن الأركان والعبادات الشرعيَّة ، وتمسَّكوا بهذه الأساليب أو التجارب الجديدة، وبذلك يكون الدين دائماً معرَّضاً للخطر ، ولعبةً للعابثين والمحرِّفين.


وهذا لا ينافي الغَوْص في أعماق هذه الأركان والأحكام والحقائق الدينية، والكشف عن أسرارها وفوائدها الاجتماعيَّة، وقد أفاض علماء الإسلام قديماً وحديثاً في بيان مقاصد الشريعة الإسلاميِّة، وأسرار العبادات والفرائض والأحكام الشرعية، وألَّفوا كتباً مستقلة، وكتبوا بحوثاً جليلة، كالغزالي، والخطَّابي، وعز الدين بن عبد السلام، وابن القيم الجوزية، وأحمد بن عبد الرحيم الدهلوي، ولكن كل ذلك من غير تحريف لحقيقة هذه العبادات والأحكام و الغاية الأولى التي شُرعت لها، وهي امتثال الأمر الإلهيّ، والتَّقرُّب إليه بذلك، والإيمان والاحتساب فيها، ومن غير إخضاع لها للفلسفات العجميَّة أو الأجنبيَّة في عصرهم ومن غير خضوع بسحرها وبريقها.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم


------
( )انظر البحث في هذا الحديث في كتابنا (النبوة والأنبياء).
( ) ومن أمثلة هذا التلاعب بالمصطلحات الدينية، أن أستاذاً في إحدى جامعات الهند الكبرى، وهو يدرس اللغة العربية وآدابها، ألقى محاضرة في دورة مؤتمر الدراسات الإسلامية الأخيرة قال فيها: أن المراد بكلمة (الصلاة) حيثما وردت في القرآن مطلقة (الحكومة المحلية ) أو (الإقليمية) والمراد (بالصلاة الوسطى ) :الحكومة المركزية أو (الخلافة العامة) ، وكان المقال باللغة العربية ، وقد رددت عليه في حينه وقلت في تعليقي عليه: إنه تلاعب بالقرآن الكريم وبالعقل، وتمهيد لفوضى لغوية فكرية، وفتح الباب للإلحاد على مصراعيه، ونالت هذه الكلمة رضا المستمعين، وتلقوها بالقبول والاستحسان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين