
وقد كان ما يمتاز به المجتمع الإسلامي الأول المثالي: الصحابة رضي الله عنهم بفضل التربية النبويَّة الدقيقة الشاملة بالجمع بين الدين المتين الذي لا مغمز فيه، والإيمان القوي الذي لا يعتريه وهن، وبين الوعي الناضج الكامل، فكانوا لا يخدعون ولا ينخدعون، لا يسيغون شيئاً ينافي الإسلام، وينافي العقل، والذي يضرهم ويجني عليهم، أو يوقعهم في خطر أو تهلكة، قد بلغوا من الرشد، واستكملوا الحصافة والنضج، فلا يؤْخذون على غِرَّة، ولا يقعون في شَرَك ينصبه العدو الماكر، يخطئون ولكن لا يُصرُّون، ولا تتكرَّر منهم غلطات وتورُّطات، وقد جاء في حديث صحيح: (لا يلدغ المؤمن من جُحْر مرَّتين) بخلاف الشعوب الفاقدة الوعي، فهي تلدغ مرة بعد مرة، وذلك لأن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أخذهم بتربية وتعاليم أَمِنوا بها عن الوقوع في الشِّباك، وامتنعوا بها عن قبول ما لا يتَّفق مع تعاليم الإسلام وآدابه، والفطر السليمة والعقول المستقيمة، فكان مجتمعاً نموذجياً مثالياً في كلِّ شيء.
أعرض لكم – على سبيل المثال - مثالين من هذا العقل الحصيف والوعي الكامل:
الأول: أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلم قال مرة: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) وهو مثَل جاهلي قديم، وعُرْف من أعراف العرب الأوَّلين، تمسَّك به العرب في جاهليتهم كما قال العلامة الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث في كتابه الجليل "فتح الباري" فكان المتوقع المعقول أن يتلقَّاه الصحابة – وقد نشأوا في الجاهلية وعاشوا في الجزيرة – إما بالقَبول وإما بالسكوت.
وقد صدر هذا الكلام من النبيِّ المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى: [إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] {النَّجم:4}.وقد عُرِف حبُّهم لنبيِّهم صلَّى الله عليه وسلم، وفداؤهم له بالنفس والنفيس، وكان حبّاً لا نظير له في تاريخ الديانات والرسالات، وفي تاريخ الحب والطاعة العالمي، وكان تفسيراً للحديث المشهور: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وولده والناس أجمعين) ، وجاء في بعض الروايات: (من نفسه) ، ولكن كلّ ذلك لم يمنعهم عن التساؤل أو الاستيضاح، فإنَّ ظاهر الكلام كان ينافي ما فهموه من تعاليم الإسلام، وما شاهدوه من تربية الرسول صلَّى الله عليه وسلم وأخلاقه، وما آمنوا به من مبدأ الإنصاف والمساواة، وقوله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ] {النساء:135}، وقوله تعالى: [وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] {المائدة:8}، فقالوا يا رسول الله: (هذا نصرته مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟)، هنالك فسَّره رسول الله صلَّى الله عليه وسلم تفسيراً يتفق مع تعاليمه السابقة الدائمة، فقال: (تمنعه من الظلم فاذك نصرك إيَّاه) ( ).
هنالك اقتنع الصحابة رضي الله عنهم، وشفيت صدروهم، فازدادوا إيماناً على إيمان، وهو مثال بليغ رائع من أمثلة الوعي الإيماني العقلي الذي كان شعاراً لصحابة الرسول صلَّى الله عليه وسلم والصدر الأول.
والمثال الثاني: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أرسل سريَّة، وأمر الصحابة بطاعة الأمير، وقد كان في هذه السرِيَّة ما لم يُرْض الأمير، وشك في انقيادهم له فأمر بالحطب، فجمع وأمر بالنار فأشعلت، ثم قال: خوضوها، فامتنع الصحابة رضي الله عنهم عن طاعته في ذلك لأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ، وقالوا: إنَّما فررنا من النار ، ولما رجع إلى المدينة شكا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فصوَّب فعلهم، وقال: (لو دخلوا فيها لم يزالوا فيها) ، وقال: (لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف) ( ).
وكانت نتيجة ضعف بعض الشعوب المسلمة القوية في إيمانها، الغنيَّة في مظاهرها الإيمانيَّة، ومراكزها الدينيَّة، وثروتها العلميَّة، أنها كانت فريسة سهلة للهتافات الجاهلية، والنَّعرات القوميَّة، أو العصبيات اللغويَّة والثقافيَّة، ولعبة القيادات الداهية والمؤامرات الأجنبيَّة، وذهبت ضحيةَ سذاجتها وضعفها في الوعي الديني، والعقل الإيماني كما وقع في باكستان الشرقية في 1971م، قامت فيها مجزرة إنسانيَّة هائلة، وما ذلك إلا بسحر دعوات العصبيَّة اللغوية والعصبية الوطنية على هذا الشعب المسلم، ونهض فيه علماء كبار ودعاة إلى الله، وغصَّت بلادها بالمساجد والمدارس، وكانت عاصفة هوجاء هبَّت ثم ركدت، ونار حامية التهبت ثم انطفأت، و لكنها زلزلت أركان الإسلام في هذه المنطقة، وأضعفت الكيان الإسلامي، و كانت حُجَّةً لأعداء الإسلام الذين يقولون: إن الإسلام لا يستطيع أن يقاوم العصبيات القومية ولا يقتلع جذورها من نفوس أتباعه.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول