
الشباب نصف الحاضر وكل المستقبل، فهم رجال المستقبل وعُدته، ومبعث الآمال في النهوض بالأمة ورُقيها، وهم حصانة الأمة ومَنَعَتُهَا من الضعف والتأخر، وهم الحارس لحدود الوطن وحِماه، الساهرون على صيانة كرامته وقيمه ودينه، وهم العاملون على استخراج ثرواته والحفاظ عليها، الحافظون لثرواته وكنوزه، ومن ثمَّ فهم المتحمّلون للمشقة والعناء والمجاهدة، القادرون على بذل التضحيات والجهود في سبيل رقي المجتمع والوطن والأمة، وعليه.. فيجب أن نهتم بتربية هؤلاء الشباب وتأهيلهم لهذه المهام العظام. متى تبدأ مرحلة الشباب؟ تبدأ مرحلة الشباب مع بلوغ الفتى أو الفتاة، والبلوغ عند الذكر والأنثى يبدأ من التاسعة أو العاشرة، وقد يتأخر البلوغ حتى سن الخامسة عشرة، والإنسان عندما يبلغ يكون قد امتلك القدرة على العطاء، لما منحه الله من طاقات وقدرات وقوة، ومن ثمّ ينبغي توظيف هذه الطاقات وتلك القدرات فيما يفيد المجتمعات والأمم. إن للشباب موقعاً ودوراً مؤثراً في مسار الحركة الحضارية في المجتمع ونهوض الأمم، سواء أكان ذلك في إطار الإنجازات الفكرية والعلمية، أم في ميدان الاقتصاد والعمران والتقدم التكنولوجي، أم في مجال الفنون والإبداعات. والشباب عزيمة لا يمكن الاستغناء عنها، فهم تعبير عن القوة، والتطلع إلى الأمام، وخصوبة التفكير، وهم صنّاع النهضة والتطوير، وهم القوة المقاومة للظلم والطغيان والاستبداد، ودحر العدوان والفساد، والشباب هم المستقبل الواعد للأمة.
إنهم - أي الشباب - حركة الحاضر بمستوى رفيع من الحيوية، المتصلة بإنتاج سلفنا الصالح من جهة، والمتطلعة إلى المستقبل بعيون يملؤها الأمل والاستبشار من جهة أخرى. نماذج شبابية من القرآن الكريم للقرآن الكريم إشارات في مواضع كثيرة إلى نماذج شبابية، وهذه الإشارات تتضمن توجيهات - مباشرة أو ضمنية - إلى الاهتمام بالشباب، واستثمار طاقاتهم وقدراتهم.
1- إبراهيم عليه السلام: أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، الذي وصفه ربه بأنه كان أمة: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ >120< شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ >121< وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ >122<}(النحل). كان فتى في الحق مقداماً شجاعاً، لا يخشى أحداً إلا الله عز وجل، فلما رأى قومه يعبدون الأصنام أراد أن يقيم عليهم الحجة، فنهاهم عن الشرك، ودعاهم إلى التوحيد، وخاطب والده خطاباً رقيقاً لينتهي عن الشرك، وينقذه من الضلال لكنه أبى، وكذلك القوم، ولما كسّر الأصنام عرفوا أن إبراهيم عليه السلام هو الذي فعل ذلك، وكان آنذاك فتى قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ {58} قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ {59} قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ {60}}(الأنبياء).
2- نموذج إسماعيل عليه السلام: يشير القرآن الكريم إلى هذا النموذج الشبابي الفذ، وقد تجسّدت فيه عدة صفات ما أحوج شبابنا إليها، من أبرزها وأهمها الطاعة والامتثال والحلم والقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة في الأزمات والظروف الحرجة.. ورد ذلك في قصة إبراهيم مع ولده إسماعيل عليهما السلام في القرآن الكريم، حيث تقدمت السن بإبراهيم عليه السلام، ولم يُرزق الولد، فدعا ربه سبحانه وتعالى:( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ {100}) (الصافات)، فاستجاب الله عز وجل لدعوته: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ {101}}(الصافات)، وهو إسماعيل عليه السلام، فلما صار شاباً قادراً على أداء دوره كان الابتلاء، وقد سجل القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ {102} } (الصافات). هذا هو النموذج الشبابي في طاعة أبيه والامتثال لأمر الله تعالى دون تردد، واتخاذ القرار بثقة عند الشدائد والظروف المعقدة.. ولا شك في أن إسماعيل - كشاب - لم يصل إلى هذا المستوى من التميز إلا بالتربية المؤثرة والعناية الفائقة، التي جعلته على هذه الدرجة من الإيمان.
3- فتية الكهف: سجل القرآن الكريم قصة هؤلاء الفتية المؤمنين في سورة «الكهف»، وصورهم وقد ابتلوا، وقسا عليهم قومهم ولاحقوهم، ففروا بدينهم، ودخلوا كهفهم، ويصف الحق سبحانه وتعالى المشهد بقوله: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً {10}}(الكهف). لقد أكد هذا النص القرآني نضج هؤلاء الشباب، وسمو فكرتهم، وإدراكهم طريق النجاة، الذي تمثل في التزام الطريق السوي والاستقامة على الإيمان والثبات عليه، ثم أخذهم بأسباب النجاة بدينهم، والتزامهم مبدأ السلمية، فسالموا قومهم برغم أن القوم كانوا كفاراً، ثم ها هم أولاء يدخلون الكهف طالبين رحمة ربهم التي وسعت كل شيء، وذلك كله يعكس رشدهم وسدادهم، وقدرتهم على اتخاذ القرار والتصرف بحكمة وعلى بصيرة في ظروف الفتنة، وذلك طريق النجاح الذي لا بديل عنه، لذا فقد وصفهم ربهم سبحانه لهم بالهدى، والهدى قرين الحق وهو الدين، فوصفهم سبحانه وتعالى بقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى {13}}(الكهف). وكانوا على صحيح العقيدة، مستمسكين بها، لا يتزعزع لديهم التوحيد. والمتأمل في هذين النموذجين الشبابين (إسماعيل عليه السلام، وفتية أهل الكهف)، يستطيع أن يستخلص عدة مقومات لنجاح الشباب، وهي مقومات غاية في الأهمية، ينبغي للشباب والقائمين على إعدادهم وتربيتهم أن يسعوا جاهدين لتحقيق هذه المقومات، ومن أهم هذه المقومات: قوة الإيمان، والحلم، والصبر، والطاعة، والامتثال لأمر الله، والرشاد، والهدى، والسعي والأخذ بالأسباب.
4- يحيى عليه السلام: لقد خاطب رب العزة يحيى عليه السلام في إشارة إلى أهمية القوة في فترة الصبى، واستثمار هذه القوة في إنجاز المهام، قال عز وجل: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً {12}}(مريم). وبتأمل هذا النص القرآني العظيم يتأكد لنا أن الحق سبحانه وتعالى لم يأمر يحيى عليه السلام بحمل الكتاب والدعوة فحسب، وإنما قرن ذلك بالقوة، لأن نشر الحق يحتاج إلى قوة، لأنه لا شك سيجد مقاومة وإعاقات من أهل الباطل أصحاب المصالح الشخصية المناوئين للفضيلة والقيم الكريمة، ومن ثم فلا يفيد الضعف في مثل هذه الحالات. إن للباطل صوتاً عالياً لكنه ضعيف إذا ما ثبت أهل الحق، ولذلك فقد اهتم النبي "صلى الله عليه وسلم" بالشباب، واعتنى بهم عناية خاصة، ولقد كان هؤلاء الشباب جديرين بذلك، حيث لبوا عندما دعاهم رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، وبذلوا، وأعطوا، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال يوم بدر: «مَنْ فعل كذا وكذا، وأتى كذا وكذا، فله كذا وكذا، فتسارع إليه الشبان، وثبت الشيوخ عند الرايات»(رواه النسائي والبيهقي).
5- سيف الدين قطز: خُطف من أهله وهو في سن الخامسة، خطفه أناس قساة مجرمون، وساحوا به في البلاد، وانتهى به الأمر إلى أن بيع، ثم بيع حتى وصل إلى مكان تدرب فيه على مهارات القيادة العسكرية والقتال، لقد كان طفلاً صغيراً لكن هدفه كان كبيراً، وبرغم أنه كان في ظروف قاسية صعبة، فإنه لم يتذرع بقسوة الظروف فيعزف عن هدفه في الحياة، بل كانت إرادته قوية، برغم أنه حرم الأب والأم في طفولته، وتعرض لمحنة الرق والبيع، لكنه نبغ وتفوق في القيادة العسكرية منذ صغره، ثم رأيناه قائداً هماماً ومقاتلاً شجاعاً في هزيمة التتار، عندما قاد جيش المسلمين في موقعة «عين جالوت». يقول الشيخ العز بن عبدالسلام يرحمه الله تعالى عن سيف الدين قطز: «لو قلت: ليس هناك مَنْ هو أفضل من قطز من زمان عمر بن عبدالعزيز لكنت صادقاً، إنه سيف الدين قطز الذي قال قولته الشهيرة: «من للإسلام إن لم نكن نحن».
6- الإمام الشافعي يرحمه الله تعالى: كان طفلاً في الرابعة من عمره أو الخامسة حين توفي أبوه، وتركه لأمه فقيراً لا يجد شيئاً، بيد أن عزيمته كانت قوية، وإرادته كانت فولاذية، وكذلك روح أمه، حيث علقت عليه آمالاً كبيرة، فاهتمت بتعليمه القراءة والكتابة وتحصيل العلم، ولشدة فقره لم يجد أوراقاً يكتب عليها ويسجل بها العلم، ولم تكن أمه قادرة على شراء هذه الأوراق، فبدأ يبحث في الشوارع عن عظام ألقى بها الجزارون، فكان يكتب عليها، ويضعها في جرة قديمة ببيته. ما أحوج شبابنا الآن إلى أن يقرؤوا هذه الحقائق عن الإمام الشافعي، شبابنا الذي وُفرت له الكتب لكنهم مع ذلك لا يقرؤون. ثم اكتشف الإمام الشافعي بعد ذلك ديواناً قريباً من بيته (مركز حكومي)، ووجد أن الناس فيه يكتبون على أوراق، وتخزن.. وبعد فترة لا يحتاجون إلى هذه الأوراق فيرمونها، وكانوا يكتبون على صفحة الورقة، ويتركون ظهر الورقة خالياً، فكان الإمام الشافعي يأخذها ويكتب عليها، وصارت بالنسبة له كنزاً كبيراً، ولقد صار الشافعي بذلك عالماً كبيراً يرحمه الله تعالى.
7- الإمام البخاري يرحمه الله تعالى: كان طفلاً يتيماً فقيراً، توفي والده وتركه فقيراً ترعاه أمه، فأخذت على عاتقها مسؤولية تربيته، وابتلي البخاري يرحمه الله تعالى في بصره، ودعت أمه ربها أن يرد عليه بصره، وأجاب الله عز وجل دعوتها، ورُد بصره، فوهبته أمه للعلم، وساحت به في البلاد عدة آلاف كيلو مترات، حتى أتت به إلى أماكن العلم، فأخذ يكتب ويكتب ويقرأ ويقرأ، ويحفظ ويحفظ، ولم تكن لديه أوراق، فلجأ إلى التدقيق الشديد فيما يقوله المعلم حتى يحفظه، ويكفي - إذا تحدثنا عن روايته للحديث - أنه لما بلغ ثلاثين عاماً كان قد حفظ 600 ألف حديث. إن ما سقته من نماذج شبابية نهضت بأمتها وحققت لها التقدم والازدهار ليفرض علينا فرضاً أن نهتم بشبابنا وتربيتهم وإشراكهم في الأمر، وإسهامهم في نهضة الأمة.
المصدر : مجلة المجتمع الكويتية.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول