بصائر نفسية إسلامية الغيظ والغضب 8 - لعلك ترضى

 
 
 
بقلم الدكتور : محمد كمال الشريف
 
 
 قال تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى{130}" (طه 130).
 
       والحمد لله، يكون شكراً له على نعمائه، ويكون أيضاً صبراً من المؤمن على بلوائه، وبذلك يلخص الحمد الموقف الإيماني بأكمله وبشقيه اللذين لا يقوم بأحدهما دون الآخر: الصبر والشكر، أما الكافر فساخط عند البلاء وجاحد عند النعماء، ولعل هذا يرينا بعض الحكمة من أن الحمد لله رب العالمين هي أساس في صلاة المؤمن يكررها في كل ركعة.
 
لكننا هنا نريد أن نتدبر ونتفكر في قوله تعالى "لعلك ترضى" على أنها الثمرة المرجوة من التسبيح بحمد الله في الفجر قبل طلوع الشمس، وفي العصر قبل غروبها ومن آناء الليل وأطراف النهار عند الظهيرة والمغرب والعشاء. فالإنسان يتوقع أن يكون الحمد باللسان تعبيراً عن الرضا الذي يعمر به القلب، لكن الآية الكريمة التي تدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصبر على ما يزعجه من قول الكفار عنه تدعوه في الوقت ذاته إلى أن يسبح بحمد ربه حتى تمتلئ نفسه رضا، إذ الرضاء جوهر الصبر، وبذلك يكون التسبيح بحمد الله وتكرارنا لقولة "الحمد لله" المرات الكثيرة الكثيرة، يكون سبباً في رضانا عما يقدره الله علينا وما يقدره الله لنا..
 
      أما الآية التالية فتدل على طريقة أخرى كي يرضى ويحافظ على حالة الرضا التي لا سعادة دونها، فتقول: "ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه، ورزقُ ربك خير وأبقى" (طه 131 ).
 
      ونعود إلى التسبيح بحمد الرب وكيف يقود إلى الرضا في نفس المؤمن، الرضا على البلاء "فاصبر على ما يقولون" والرضا على العطاء "ولا تمدن عينيك .. "، ليس الحمد فحسب بل هو التسبيح بحمده جلَّ في علاه، إنه ليس كلمة واحدة يقولها المؤمن "الحمد لله"، بل هو تسبيح بهذه الكلمة يقولها خلاله المرات الكثيرة، مرات تبلغ العشرات أو حتى المئات، إنها تسبيح بحمده سبحانه وتعالى يلهج به لسان المؤمن ويكرره دون أن يمل من تكراره..    
 
 أما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غِيْن على قلبه – أي غُطّي عليه– استغفر الله مائة مرة؟ قال صلى الله عليه وسلم: "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" (رواه مسلم )، وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال: كنا نَعُدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة "رب اغفر لي وتُبْ عليَّ إنك أنت التواب الرحيم" (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) .
 
      إن تكرار العبارات الإيمانية التي تلخص المعاني الكبيرة مثل "الحمد لله" و"استغفر الله وأتوب إليه" و"الله أكبر" و"سبحان الله" و"لا إله إلاّ الله" وغيرها، هذا التكرار مع استشعار معناها عند التلفظ بها يجعل معناها يستقر في القلب، أي في اللاشعور حسب التسمية العلمية المعاصرة، وإذا ما ترسخت في اللاشعور وامتلأ بها القلب صارت قوة دافعة للسلوك وصارت منبعاً للمشاعر والوجدانات الإيمانية التي تملأ حياة المؤمن سعادة وأمناً وسلاماً..
 
      إن قوله تعالى "لعلك ترضى"، غني بالدلالات التي يمكن للمسلم المعاصر أن يقتبس منها طريقة علاجية تفيد في تغيير المشاعر والوجدانات غير المرغوبة وتفيد في إيجاد مشاعر ووجدانات معينة تكون مطلوبة بحد ذاتها أو لما يمكن أن تولده من دافعية لسلوك نافع يحل محل سلوك ضار اعتادته النفس وصعب عليها الإقلاع عنه.
 
      واللاشعور عند الإنسان يتأثر بالخبرات المتكررة التي بتكرارها تحفر فيه آثـاراً لا تستطيع الأفكار والقناعات العقلية محوها، وهكذا يكون في تكرار الحمد أو التكبير أو التهليل أو الاستغفار أو غير ذلك، يكون إثارة لمشاعر وخبرات يتذوقها اللاشعور وتتكرر عليه لتحفر فيه آثارها الطيبة الراسخة فتنتقل تلك المعاني من النفس إلى القلب، أي من الشعور إلى اللاشعور فيكون الانسجام والتوافق بينهما وتتوحد النفس الإنسانية في اتجاه واحد فلا ترغب النفس في شيء بينما القلب له رافض فيتركها تتمنى دون أن يكون لها العزم على فعل ما تتمناه، بل هو معها يمدها بالطاقة والدافعية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين