بقلم: ماجد الدرويش
عبر التاريخ تعرضت بلاد الإسلام لهجمات خارجية كثيرة إلا أن أخطرها على الإطلاق هجمتان: الحملات الصليبية، والهجمة التترية المغولية، وكلا الخطرين كان لمصر شرفُ التصدي لها وإنهائها.
بدأ التخطيط للتصدي للصليبيين واسترجاع بيت المقدس من حلب الشهباء التي كانت تحت سلطان الملك العادل المجاهد الشهيد نور الدين زنكي رحمه الله تعالى، الذي شيَّد منبرا ليخطب عليه خطبة صلاة التحرير في المسجد الأقصى. وكانت الخطة تقضي بتوحيد جهود المسلمين حول بيت المقدس تحت راية واحدة من حلب إلى القاهرة.
ويشاء الله تعالى أن يُتوفى نور الدين محمود زنكي سنة 569 ه، مبطونًا، فأكرمه الله تعالى بالشهادة بعد أن مدَّ سلطانه على سائر بلاد الشام حتى مصر، مما مهَّد الطريق أمام السلطان صلاح الدين الأيوبي، الذي كان قائدا في جيش خاله نور الدين، لتحرير بيت المقدس، منطلقا من مصر الكنانة، مستكملا بذلك ما بدأه خاله نور الدين الشهيد رحمه الله تعالى.
ومن يومها وأمر الصليبيين إلى اندثار حتى كان خروجهم من بلادنا كليا عام 688 ه، يوم تم فتح طرابلس الشام على يدي المنصور قلاوون رحمه الله تعالى، وبذلك خرج الصليبيون عسكريا من بلادنا.
وتزامن ذلك مع انسياح التتار في بلاد الإسلام ووصولهم إلى بغداد حاضرة الخلافة، فقتلوا فيها في أيام معدودة ألفي ألف إنسان ( مليونين ) على ما قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تاريخه، وكان ذلك سنة 617 ه، وكان يوم دخولهم يوما مشؤوما على كل شيء في بلاد الإسلام حتى ظنَّ البعض أنها نهاية الإسلام والمسلمين، كما قال المؤرخ ابن الأثير الجزري في تاريخه: (10/332 – 333 )، عندما كتب يؤرخ لهذه الفاجعة التي شهدها عام (617 للهجرة)، قال:
(لَقَدْ بَقِيتُ عِدَّةَ سِنِينَ مُعْرِضًا عَنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ اسْتِعْظَامًا لَهَا، كَارِهًا لِذِكْرِهَا، فَأَنَا أُقَدِّمُ إِلَيْهِ رِجْلًا وَأُؤَخِّرُ أُخْرَى، فَمَنِ الَّذِي يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ نَعْيَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ؟ وَمَنِ الَّذِي يَهُونُ عَلَيْهِ ذِكْرُ ذَلِكَ؟ فَيَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي، وَيَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ حُدُوثِهَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا.
إِلَّا أَنَّنِي حَثَّنِي جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَصْدِقَاءِ عَلَى تَسْطِيرِهَا وَأَنَا مُتَوَقِّفٌ، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ لَا يُجْدِي نَفْعًا، فَنَقُولُ:
هَذَا الْفِعْلُ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ الْحَادِثَةِ الْعُظْمَى، وَالْمُصِيبَةِ الْكُبْرَى الَّتِي عَقَّتِ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي عَنْ مِثْلِهَا. عَمَّتِ الْخَلَائِقَ، وَخَصَّتِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْعَالَمَ مُذْ خَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى آدَمَ، إِلَى الْآنِ، لَمْ يُبْتَلَوْا بِمِثْلِهَا، لَكَانَ صَادِقًا، فَإِنَّ التَّوَارِيخَ لَمْ تَتَضَمَّنْ مَا يُقَارِبُهَا وَلَا مَا يُدَانِيهَا.
وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَذْكُرُونَ مِنَ الْحَوَادِثِ مَا فَعَلَهُ بُخْتُ نَصَّرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْقَتْلِ، وَتَخْرِيبِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَمَا الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا خَرَّبَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاعِنُ مِنَ الْبِلَادِ، الَّتِي كَلُّ مَدِينَةٍ مِنْهَا أَضْعَافُ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَمَا بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ قَتَلُوا، فَإِنَّ أَهْلَ مَدِينَةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّنْ قُتِلُوا أَكْثَرُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَعَلَّ الْخَلْقَ لَا يَرَوْنَ مِثْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ إِلَى أَنْ يَنْقَرِضَ الْعَالَمُ، وَتَفْنَى الدُّنْيَا، إِلَّا يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ.
وَأَمَّا الدَّجَّالُ فَإِنَّهُ يُبْقِي عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ، وَيُهْلِكُ مَنْ خَالَفَهُ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُبْقُوا عَلَى أَحَدٍ، بَلْ قَتَلُوا النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ وَالْأَطْفَالَ، وَشَقُّوا بُطُونَ الْحَوَامِلِ، وَقَتَلُوا الْأَجِنَّةَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ).
إلا أن ابن الأثير رحمه الله تعالى ، والذي تُوُفي سنة 630 ه، لم يعش حتى يشهد عودةَ دولة الإسلام وهزيمةَ التتار على يدي جيش المسلمين الذي جمع فلوله في مصر الكنانة، وانطلق منها بقيادة المظفر محمد قطز، فطُحِنَ التتار طحنا في معركة عين جالوت في 25 رمضان من سنة 685 ه، فتحققت سنة الله تعالى في الأمم.
والخلاصة أنَّ مصر الكنانة كانت حصن الإسلام عبر التاريخ، فقد حفظ الله تعالى بها بلاد المسلمين، وكانت تشكل قاعدة الإنطلاق من جديد للتصدي لما يمكن أن يشكل خطرا كليا على الأمة عبر التاريخ.
وقد حققت هذه الانتصارات اعتمادا على الله تعالى أولا، ثم عن طريق الإنسجام التام الذي كان بين حكام مصر وبين علمائها، الأمر الذي كان له الأثر الكبير في تحقيق تلك الانتصارات، على القاعدة التي قيلت في عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ( إنه رجل أصلح ما بينه وبين الله فأصلح الله ما بينه وبين الناس ).
وهذا ما حصل في مصر تلك الحقبة من الزمن، حيث أصلح الله تعالى أمر حكامها على يدي علماء كبار من مثل العز بن عبد السلام في مصر، والإمام النووي في الشام، وجملة كبيرة من أمثالهم. الأمر الذي انعكس استقامة على حياة عامة الناس. فلما حصلت الاستجابة لأمر الله تعالى كان النصر المبين.
وفي العصر الحديث، وبعد الحرب العالمية الثانية، حاولت مصر تحت قيادة رجالات الثورة والضباط الأحرار أن تلعب دورا في صدِّ الهجمات الجديدة، إلا أنها دخلت معترك الصراع بعيدا عن هويتها ودينها، فباءت محاولاتها بالفشل، بل وتسببت بويلات كبيرة، فقد حجزت بين الحكام والعلماء، وتبنت أفكارا وافدة لا تمت إلى هوية الأمة بصلة، فكان الذي عشناه ونعرفه من انتكاسات توالت حتى وصلت إلى إقصاء مصر عن الساحة العربية والدولية عن طريق مجموعة من الاتفاقيات والتي عرفت بـ ( كامب ديفيد ).
واليوم، ومع بروز نجم الربيع العربي، ها هي مصر تعود من جديد إلى الساحة الدولية، ولكنها هذه المرة عادت عودا حميدا منطلقة من هويتها وتاريخها ودينها، وإن شاء الله تعالى سيجد المسلمون الأثر الإيجابي لذلك، لأننا نجد فيها اليوم العناصر الثلاث التي حققت الانتصارات فيما مضى من الزمن: الحاكم المؤمن الصادق الذي يجتهد لإقامة العدل، والعالم الربانيُّ الصادق الذي لا يقدم على أمر الله شيء، المواطن المؤمن الذي يلتحم مع حكامه وعلمائه ليشكلوا حالة إيمانية جهادية صادقة.
المهم أن يبقى حكام مصر الجدد على الخط الذي انطلقوا منه، وليتذكروا قول الله تعالى: ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) وقول الله تعالى: ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل .. ) وقول الله تعالى: ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ).
ومن المهم جدا أن يبقى الانسجام التام بين الحاكم والعالم والمواطن، بين مؤسسة الرئاسة ومؤسسة الأزهر الشريف، وعامة الناس، لأن هذا الانسجام من أهم أسباب الاستقرار والقوة لمصر وللعالم الإسلامي.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول