
ولنا أن نبحث عن السبب الأصيل الذي نشأت عنه هذه البلبلة الدائرة حول الحديث النبوي في أذهان بعض الكاتبين، فنعلن أنَّ خطأ بعض من كتبوا تاريخ التشريع الإسلامي قد قوَّى هذه البلبلة، فقد تَعاونت بعض الأقلام على تسجيل فكرة هامَّة في تاريخ التشريع تقول:
إنَّ تدوين الحديث النبوي قد نشأ أول ما نشأ في القرن الثاني من الهجرة إذ أنَّ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم ومن وليهم في القرن الأول قد مرَّ دون أن تُقيَّد الأحاديث في الصحف، فلما جاء عصر التدوين كان كثيراً مما ردَّدته الألسن مدعاة الشك والنظر، وقد ساعد على تأكيد هذه الفكرة ما يَرويه بعض الرواة من أحاديث نبوية تأمر بمنع التدوين، ولنا الآن أن نميط اللثام عن حقيقة هذه الفكرة لنرى أنها لم تكن لتستقر على أساس صحيح.
إنَّ الذين كتبوا تاريخ التشريع الإسلامي يُعلنون أنَّ عمر بن عبد العزيز كان أول من أشار بجمع الحديث، وقد صدع بأمره الإمام محمد بن شهاب الزهري (124هـ) فكان أول من دوَّن الحديث في كتب خاصَّة غير مُبوَّبة، ثم شاع التدوين بعد ذلك في الجيل التالي، فنشط ابن جريج [عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج القرشي] (150)، وابن إسحاق (151)، والربيع بن صبيح (160)، ومالك (179)، وغيرهم إلى أن جاء القرن الثالث فظهرت الكتب الصحاح الذائعة، مُستندة إلى ما تَطلَّبه التقدُّم الفكري من اتخاذ مناهج خاصَّة بكل محدث، كأن يقتصر البخاري ومسلم على الحديث الصحيح، فينحو مَنْحاهما من أراد، أو يجانبهما من يرى له منهجاً آخر من المحدِّثين، إلى آخر ما نعلمه من تاريخ الحديث، هذا ما يُعلنه مؤرخو الحديث، وقد فهم منه الفاهمون أنَّ السُّنَّة لم تدوَّن من قبل عهد عمر بن عبد العزيز، وساد هذا الفهم حتى أصبح لدى كثير من المثقفين حقيقة بدهيَّة لا تقبل الاختلاف، فأتاح للمُرْجفين أن يتساءلوا في عَجَب، كيف حَفِظت الألسنةُ وحدَها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في مدى مائة وثلاثين عاماً أو تزيد.! ؟.
ثم استفاضت أحاديث تدلُّ على منع الكتابة فأكَّدت مدعاة الشك فيما تردِّده الألسنة وحدَها، وأمامنا الآن ننظر في شيئين هامين، ننظر في الأحاديث الدائرة حول كتابة الحديث إثباتاً ومنعاً، كما ننظر في مَقْدِرة الألسنة على الاحتفاظ بالنص النبوي دون وهن يُظن، وعسى أن نطمئنَّ بعد ذلك إلى رأي متين.
أما الأحاديث الدائرة حول كتابة السنة إثباتاً ومنعاً فلنبدأ منها بما يستدلون منه على المنع، ومنه:
أ – ما روي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن فمن كتب عني سوى القرآن فليمحه)، وكان من هذا أنَّ زيد بن ثابت رضي الله عنه دخل على مُعاوية رضي الله عنه فسأله عن حديث وأراد أن يكتبه، فقال زيد رضي الله عنه: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا نكتب شيئاً من حديثه فمحاه).
ب - روى الإمام الحافظ عبد الرازق بن همام الصنعاني المتوفى سنة 311 في مُصنَّفه أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يكتب السنن وأشار عليه الصحابة بذلك حين استفتاهم ولكنه طفق يَستخير اللهَ شهراً ثم أصبح يوماً وقد عزمَ الله له فقال: إني أريد أن أكتب السنن وإني تذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوبُ كتابَ الله بشيء أبداً.
ج - كان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يستأذن في أن يكتب عنه ما يحدِّث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأبى، ويقول: أيريدون أن تجعلوها مصاحف؟! إنَّ نبيكم كان يحدثنا فنحفظ، فاحفظوا كما كنَّا نحفظ، وفى رواية أخرى أنَّه قال: أردتم أن تجدوه قرآناً، لا، لا، ولكن خذوا عنا كما أخذنا عن رسول الله.
د - روت عائشة رضي الله عنها عن أبيها أنَّه جمع الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ما عنده خمسمائة حديث، فبات ليلةً يتقلَّب كثيراً، قالت فغمَّني، فقلتُ أتتقلَّب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح قال أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها، فدعا بنار فحرقها، فقلت لم أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت ذاك.
هذه نصوص دالة على منع التدوين، وقد أجاب عنها بعض المحدثين بأنَّ النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباس الحديث، أو بأنَّ النهي خاص بكتاب الوحي المتلو مثل زيد بن ثابت رضي الله عنه كيلا يخلِطُوا القرآن بغيره، أو أنَّ النهي لمن أمن عليه النسيان ووثق بحفظه، وهي إجابات تصلح رداً على مثل زيد بن ثابت إذ كان من كُتَّاب الوحي، وكذلك من على شاكلته من الكُتَّاب.
أما أنا فلم أرَ فيما سبق الاستشهاد به عن أبي بكر وعمر وسعيد الخدري رضي الله عنهم ما يدلُّ على نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث، بل ما يدلُّ على غير ذلك إذ أنَّ أبا بكر وعمر قد جمعا الأحاديث فعلاً ثم بدا لهما أن يرجعا عن التدوين لأسباب ذاتيَّة، ولو كانا يعلمان وجود نص نبوي في منع الجمع ما قاما بكتابة حديث واحد، وما كان هناك مجال لاستشارة الصحابة، وإذ ذاك لا يُؤخذ امتناعهما عن التدوين مأخذ النهي المحرَّم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بل مأخذ الاحتراز الشخصي من رجلين يتحفَّظان فلا يجزمان بصحَّة ما لديهما من الأحاديث، فأين دليل المنع في موقفيهما هذين حتى نعتبرهما حجَّة نبويَّة؟!.
أما أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فليس فيما روينا عنه ما يدل على نهي الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما استأذن الرجل في الكتابة عنه فأبى، وقال أتريدون أن تجعلوها مصاحف، إنَّ نبيكم كان يحدثنا فنحفظ فاحفظوا كما كنا نحفظ.
هذا رأيه ومنحاه فحسب، فكيف يؤكد منه ما يدلُّ على تحريم نبوي لكتابة الحديث؟ أظنَّ أننا بهذه المناقشة الهادئة قد أوضحنا حقيقية ما نُسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من أقوال تشير إلى منع التدوين في عصره ولنا أن ننتقل بعدُ إلى أدلَّة المثبتين.
إنَّ الذين يقولون بوقوع التدوين في الصحف في عصر السنة الأولى يستدلون بأدلة مُتعدِّدة لعلَّ أهمها ما يلي:
(1)) أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة خطبته يوم فتح مكة، لرجل من اليمن، كما جاء في باب كتاب العلم من صحيح البخاري.
(2) روى البخاري في هذا الباب عن أبى هريرة رضي الله عنه قوله: ما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فإنه كان يكتب ولا أكتب.
(3) أنَّ عبد الله بن عمرو رضي الله عنه كان يسمي صحيفة أحاديثه بالصادقة، ويقول عنها ما كتبتُ فيها إلا ما سمعت أذناي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتحدث عنها مجاهد فيقول: رأيت عند عبد الله بن عمرو كتاباً فسألته ما هذا؟ فقال: هذه الصادقة، فيها ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه أحد.
(4) في صحيح البخاري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمرَ بعد هجرته إلى المدينة – بإحصاء المسلمين وبكتابة أحكام الزكاة وما يجبُ من المال وما مقداره، فكتب ذلك في صحيفتين وبقيتا محفوظتين عند أبى بكر الصديق وأبى بكر عمرو بن حزم.
فإذا أضيف إلى ذلك كله وجود بعض الصحائف لدى الصحابة مدوناً بها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك دليلاً عملياً على إباحة الكتابة..
فمن ذلك كتاب أسماء بنت عُميس (توفيت سنة 38) وكانت هاجرت مع زوجها جعفر بن أبى طالب إلى الحبشة، وتزوجت أبا بكر رضي الله عنه بعد موته، وقد جمعت في هذا الكتاب بعض أقوال الرسول صلى الله عليه وسلَّم.
ومنه كتاب سعد بن عبادة (15 هـ)، ومنه صحيفة عبد الله بن عمرو المعروفة بالصادقة (65هـ)، ثم صحيفة سَمُرة بن جُندب، وصحيفة جابر بن عبد الله (68 هـ)، وقد روى قتادة ما في هذه الصحيفة، هذا غير صحف الشيعة التي تُسجِّل بعض ما كتبه أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه، ومهما كان موقف أهل السنة منها فهي في منزلة الاعتماد من المنصفين من علماء الشيعة، وللدكتور علي حسن عبد القادر استنتاج جيد، فقد قال بصدد الحديث عن السند والمتن في كتابه نظرة عامة في الفقه:
والمتن في الأصل يطلق على الأصل المكتوب قال لبيد:
وجَلا السُّيولُ عن الطّلُولِ كأنّها ** زبرٌ تجِدُّ متونَها أقْلامُها
وفي اختيار المحدثين للفظ المتن ما يمكن أن نَستنتج منه عدم صحة ما هو معروف من أن الحديث لم يكن مكتوباً ولكنه كان مبنياً على الرواية الشفوية (والدكتور لم يفطن إلى هذا الاستنتاج إلا بعد تعدُّد الروايات القائلة بوجود صحف نبويَّة لدى نفر من الصحابة والتابعين.
ولا تزال ترفدنا بما يقوي هذه الوجهة، فقد عثر الدكتور محمد حميد الله الحيدر أبادي على صحيفة همام بن مُنَبِّه من أعلام التابعين كما رواها عن أبي هريرة رضي الله عنه، مما دعا العلامة مُناظراً حسن الكيلاني رئيس القسم الديني بالجامعة العثمانية في حيدر آباد أن يجزم في كتابه (تدوين الحديث) بأنَّه إذا جمعت هذه الصحف والمجاميع وما احتوت عليه من الأحاديث كوَّنت العدد الأكبر مما جمع بعد ذلك في الجوامع والمساند والسنن في القرن الثالث.
ولنا بعد هذه الحقائق أن نَجْزِم بأنَّ ما فُهِمَ من كتب تاريخ التشريع بأنَّ التدوين للحديث كان أول ما كان بعد تفكير عمر بن عبد العزيز، إنما يدل على بدء التدوين الشامل الذي يهدف إلى الاستقصاء.
ولا يدلُّ على أنَّ كتابة الحديث في صحف شخصيَّة لأفراد من أعلام الصحابة والتابعين كانت محرَّمة، حتى فكر في الأمر عمر بن عبد العزيز، ومتى تأكد ذلك فقد لزم أن تخفت أصوات القائلين بأنَّ المدة الطويلة بين رحيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتداء ابن شهاب الزهري بالتدوين كانت مدعاة نسيان أو تزيُّد كما يحلو لمهاجمي السنة أن يتشدَّقوا بين الحين والحين، على أننا حين أسهبنا في ذلك لم نغفل قوة الذاكرة لدى العرب في صدر الإسلام فلها هنا بعض الحديث.
لقد وعدنا فيما قبل أن ننظر في مقدرة الألسنة على الاحتفاظ بالنص النبوي دون وهن وهي مسألة أشبعها المحدثون تحليلاً وإفاضة، فأجمعوا على أنَّ أمية العرب قد وَجَّهتهم إلى الاهتمام بالحفظ، فقويت الذاكرة لديهم قوَّة خارقة كما ضربوا لذلك بعض الأمثلة من المشاهد الملموس، فالأعمى أقوى حفظاً من البصير إذ جعل كلَّ اعتماده على الحفظ، أما البصير فإنَّ ركونه إلى الكتاب مما يضعف ذاكرته عن غيره.
وقد ساعد العرب على تقوية ملكة الحفظ لديهم طبيعة جوهم وبساطة معيشتهم وسعة خبرتهم بأساليب لسانهم وطرق بيانهم، فإذا أضيف إلى ذلك شدَّة تعلق الصحابة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم كان انتباههم إلى استيفاء أحاديثه أقوى وأشد، ومن علم أنَّ أبا زرعة، وأحمد بن حنبل، والبخاري رضي الله عنهم كانوا يحفظون آلاف الأحاديث بأسانيدها لا يستكثرون أن يحفظ أبو هريرة، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم أكثر ما سمعوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون إسناد.
فإذا وُجدت الصحف المكتوبة وأسعفت الحافظة القوية، وتفرغ الملأ الكثير بروايته الحديث فلن يَهِي منه مرُّ السنين كما يدَّعون! على أننا نعرض هذا النص الحاسم على الذين يَستكثرون ورود الآلاف من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرجفون بروايتها مهولين.
قال أبو زرعة الرازي في جواب من قال له: أليس يقال: حديث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف حديث، قال: ومن قال إذا غير زنديق؟ ومن يُحصي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد قبض صلى الله عليه وسلم عن مائة ألف وأربعة عشر ألفاً من الصحابة ممن روى عنه ومن سمع منه، وهم أهل المدينة وأهل مكة، ومن بينهما من الأعراب ومن شهد معه حجَّة الوداع، كل من رآه وسمع منه بعرفة.
وقال الرافعي: قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ستون ألفاً، ثلاثون ألفاً بالمدينة وثلاثون ألفاً في قبائل العرب، (ننقل هذين النصين لنقول إنَّه على افتراض كون المسلمين ستين ألفاً فقط عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلهم قد حدَّثه وسمعه وروى عنه أفيكون ما لدينا من حديثه عنهم من الكثرة بحيث نظنُّ به الظنون دون تدليل)
إنَّ ما أرجفت به الأقلام المسلمة في هذا العصر حول السنة المطهرة يرجع إلى أن كتب مصطلح الحديث من الدقَّة والصعوبة بحيث لا يفهمها جمهرة المثقفين، فظلَّت محصورة بين نفر من المتخصصين لم يقوموا بواجبهم الأكمل في تبسيطها وتوضيحها تمشياً مع روح الزمن ومُقتضياته، ولو أن جمهور المثقفين عرفوا حقيقة مصطلح الحديث لقدَّروا الجهد الجهيد الذي بذله علماء الإسلام في حماية السنة والحرص على صدقها المتأكد، ونحن الآن نرى أعقد المسائل والنظريات في علوم الطبيعة والكيمياء تكتب لمن لم يتخصص في دراستها كتابة مُبَسَّطة تنأى عن المصطلحات العلميَّة وتهدف إلى تبسيط الفكرة العامة؟ أفيجوز لنا بعد ذلك أن ندعي أنَّ مصطلح الحديث وقف على المتخصصين دون أن نبذل جهداً يسيراً في عرض حقائقه وتقريبها للقارئ العام، ونحن نرى بعض المجلات والكتب تحيطنا بالشكوك الزائفة عن السنة ورجالها ثم نتركها غير مُبالين؟!.
على أنَّ المسألة بعدُ ليست مسألة القارئ العام، فلدينا كُتَّاب أفذاذ لا شكَّ في طهارة نياتهم وسلامة اعتقادهم قد تأثَّروا بأقوال الاستشراق، ولهم مع ذلك جهدٌ ممتاز في تدوين السيرة المحمَّدية وتاريخ العلوم الإسلامية، ولن أضرب المثل بالكاتب الكبير الدكتور محمد حسين هيكل حين ذكر في (حياة محمد) ما لا نُسلِّمه له عن مقدار ما عدَّه البخاري صحيحاً من الأحاديث، فالدكتور هيكل رحمه الله تعالى وإن كان في طليعة كُتَّاب السيرة النبوية والمدافع عن صاحبها أحر دفاع وأقواه – لم يدرس مصطلح الحديث على أهميته لكتاب السيرة النبوية، ولكني أضرب المثل بأستاذنا العالم الكبير الدكتور أحمد أمين إذ أنَّ ثقافته العلميَّة بالأزهر ودار القضاء الشرعي قد أوقفته على دقائق هذا العلم وخفاياه، ولكنه قرأ كثيراً في كتب الاستشراق فتأثَّر – ككل قارئ – بما عدَّه صحيحاً من أقوالهم، وحين تفرَّغ لتاريخ العلوم الإسلامية كان مقاله عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مدعاة نظر طويل، وقد أبلى الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى بلاءً طيباً في مُناقشة أقواله، وكان الأستاذ أحمد أمين من سعة الصدر وكمال الإنصاف بحيث اعترف أنَّ نقد الدكتور السباعي نقد علمي صحيح، وكان أهم ما اتجه إليه السباعي في نقده ما حكاه الأستاذ عن وضع طائفة من الأحاديث، وعدالة بعض الرواة من الصحابة والتابعين، والأحاديث المعتمدة عن أبى حنيفة واختلاف العلماء في الجرح والتعديل.
وقد قال صاحب فجر الإسلام ص 266:
(وقد وضع العلماء للجرح والتعديل قواعد ليس هنا محل ذكرها ولكنهم -والحق يقال- عُنوا بنقد الإسناد أكثر مما عُنوا بنقد المتن، فقلَّ أن تظفر منهم بنقد من ناحية أنَّ ما نُسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يتفق والظروف التي قِيلت فيه، أو أنَّ الحوادث التاريخيَّة الثابتة تُناقضه، أو أنَّ عبارة الحديث نوعٌ من التعبير الفلسفي يخالف المألوف في تعبير النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنَّ الحديث أشبه في شروطه وقيوده بمتون الفقه وهكذا، ولم نظفر منهم في هذا الباب بعُشْر مِعْشار ما عُنوا به من جرح الرجال وتعديلهم).
وحديث الدكتور أحمد أمين عن العناية بالإسناد أكثر من المتن، وجد النقد المقنع من رجال العلم، فمنهم من بيَّن أنَّ العناية بالمتن كانت محلَّ الاعتبار مثل العناية بالسند سواء بسواء؛ لأنَّ أئمة الحديث كما ذكروا علامات الوضع في السند من اشتهار الراوي بالكذب أو اعترافه مؤخراً بتعمُّد الوضع أو ادعائه رؤية شيخ لا تثبت رؤيته لاختلاف الزمان والمكان، أو انتمائه إلى فِرقة مُغرضة تخدم أهواءها بالتزيُّد والانتحال، نقول إنَّ أئمة الحديث كما ذكروا علامات الوضع في الإسناد ذكروا علامات الوضع في المتن، كأن يكون التعبير في الحديث ركيكاً لا يتصوَّر صدوره من أفصح البلغاء، أو أن يكون المعنى فاسداً يخالف ما تعرفه البداهة الواضحة فلا يجوز أن يقوله نبي مُرسل كان مضرب المثل في الحكمة والسداد، أو أن يخالف الحديث نصاً صريحاً من نصوص القرآن، بحيث لا يَقبل التأويل أو يتضمَّن أمراً جهيراً من شأنه أن تتوافر الدواعي إلى نقله، ثم لا يرويه إلا شخص واحد، أو أن يخالف الحقائق المشتهرة المعروفة في عصر النبوَّة..
كل هذه وأمثالها علامات يُعرف بها الحديث الموضوع، وقد أسهب علماء السنة في بسطها وضرب الأمثلة عليها مما لاكته الألسنة من الموضوعات، فالقول بأنَّ الاهتمام بالسند قد تحيف الاهتمام بالمتن مما لا يَنهض على أساس قويم، وأكبر الظن أنَّ أستاذنا الدكتور أحمد أمين قد وجد الحديث يَستفيض عن تاريخ الرواة ومَنزلتهم في ميزان الجرح والتعديل، فظنَّ ذلك مزيد اهتمام بناحية دون ناحية، مع أنَّ طبيعة البحث في الإسناد هي التي تحتم الخوض في تاريخ الرجال، فإذا كان لدينا حديث واحد نقل عن أربعة من الرواة مثلاً، فإنَّ الكلام عن كل راوٍ منهم يتطلَّب بعض البسط فإذا تحدَّث علماء السند عن أربعتهم جميعاً فإنَّ حديثهم بلا شك يكون أضعاف كلامهم عن المتن المروي، وليس ذلك تحيفاً للمتن إذ هو مما يتضح فيه الرأي دون فحص مُتصل في الإسناد المتسلسل.
هذا وجه الحق فيما ردَّده المستشرقون عن مُغالاة، وحكاه الأستاذ أحمد أمين عن إخلاص لم يتحرَّ أسبابَه تحرياً دقيقاً.
وقد تأكَّدت نظرية الاهتمام بالسند أكثر من المتن تأكداً أصيلاً لدى كثير من المثقفين إذ فاتهم ما ألمحنا إليه من أنَّ طبيعة الإسناد المتسلسل تقتضي هذه التوسعة والإسهاب دون أن تتحيف المتن في شيء، فليس لدينا عدد من الأوراق يَلزمنا أن نقسمه نصفين بالتساوي لنملأ بالنصف الأول حديثنا عن المتن، ونشغل بالنصف الثاني حديثنا عن السند، وإنما لدينا في الإسناد رجال كثيرون رووا متناً واحداً قد لا يَتجاوز السطر، وحامت الريبة حول المتن فوجب البحثُ المتشعِّب في رجال الإسناد.
إنَّ تأكد نظرية الاهتمام بالسند أكثر من المتن قد وَجدت مكانها لدى الكثيرين حتى ممن شرعوا أقلامهم لمعارضة الأستاذ أحمد أمين، فإنَّ زميله الناقد الأستاذ عبد الوهاب حمودة حين أراد نقد رأيهم في الاهتمام بالسند أكثر من المتن، لم يوضِّح أعباء الإسناد كما ألمحنا إليها من قبل، ولكنه وافق صاحب فجر الإسلام على قوله، ومضى يلتمس التبرير لما كان من إجحاف بالمتن فقال:
(إنَّ علماء الحديث لما رأوا أنَّ الاطلاع على ما في الإسناد من عِلَّة على ما ينبغي يَعسر على غيرهم، بخلاف الاطلاع على ما في المتن من عِلَّة فإنَّه سهل المدرك صرفوا جُلَّ عنايتهم على بيان ما يَتعلَّق بالإسناد ليكفوا غيرهم مؤونة ذلك، لذلك نرى كتب العِلَل تتعرَّض لذكر ما وقع في الحديث من الاضطراب من جهة الإسناد، وقلما تتعرَّض لذكر ما وقع فيه الاضطراب من جهة المتن؛ لأنَّ النقد المتعلِّق بالإسناد دقيق غامض لا يدركه إلا أفراد من أئمة الحديث، هذا إلى أنَّ علم الحديث كالتاريخ من العلوم النقليَّة التي يَلزم أن تكون صِحَّة النقل هي أول ما يطلب توافره فيها، أما ناحية الدراية فلا يكون لها المنزلة الأولى مهما كانت أهميتها، وإلا انقلبت العلوم النقليَّة علوماً عقليَّة).
وكلام الأستاذ حمودة محل اعتراض كبير إذ أننا الآن لا نعتدُّ التاريخ علماً نقلياً، حتى يُقاس به الحديث. ولو أصاب الأستاذ مقطع الحق، لذكر أنَّ المتن قد أصاب موضع الاهتمام، وليست المسألة مما يُقدَّر بالكم دون الكيف، وليت شعري إذا لم يكن المتن موضع الاهتمام ففيم اختلاف الفقهاء أمام النص الواحد؟!
لا شك في أنَّهم قد حلَّلوا النص تحليلاً وئيداً مُشبعاً، وذهبوا يقلبونه على عِدَّة احتمالاته، وما كان بحثهم عن السند إلا طريقاً لتثبيت المتن، وذلك في لبابه لا يدلُّ على الاهتمام بشيء أكثر من شيء كما نراه.
إنَّ طبقات المحدثين – وما أكثرهم – على تَنَاسل العصور لم يَمَلُّوا التأليفَ في علوم الحديث روايةً ودرايةً حتى بلغت الموسوعات النبويَّة مَبلغاً يفوق الحصر مع نشاط حركة النَّقْد والتجريح والتعديل، وكل هذا قد أضاف إلى الأحاديث النبويَّة الصحيحة ثقة تامة لدى المتمكنين كما أبان عن زيف الأحاديث الموضوعة وضلال من تبوؤوا مَقَاعدهم في النار بالافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زخرت المكتبة الإسلامية بهذا الحشد الكبير من كتب السنة إلا لتدلَّ بأصدق منطق وأخلصه، على أنَّ الأحاديث الصحيحة من ثبوتها الراسخ وصحتها المتوفرة في حِرْزٍ مَكين، وأنَّ على الذين يرجفون بالسنَّة المطهَّرة أن يتعلَّموا قراءة مصطلح الحديث فهم في غَيِّهم يَعْمَهون.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة السادس والعشرون، رجب 1388 - العدد 7).
الحلقة السابقة هــــنا
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول