
بالرغم من ادعاء الرئيس الروسي فلادمير بوتين أن غزوه لسوريا وحشده العسكري فيها يهدف إلى قتال تنظيم داعش المتطرف، إلا أن العمليات الجوية التي نفذها الروس استهدفت مختلف فصائل الجيش الحر في عدة محافظات، في حين يؤكد المحللون العسكريون أن دوافع موسكو المعلنة لا تتناسب مع الدفاعات الجوية المتطورة التي نصبها الروس في قاعدة "حميميم"، ولا يمكن أن تكون موجهة ضد تنظيم الدولة المتطرف الذي لا يملك أية مقاتلات أو منظومات دفاع صاروخي، بل إن الهدف الفعلي من نصب مثل هذه المنظومات هو إنشاء منطقة عزل جوي كامل في المنطقة، خصوصاً وأنه جاء بالتزامن مع سحب حلف الناتو دفاعاته الصاروخية، ومبادرة واشنطن إلى سحب بطاريات صواريخ باتريوت من منطقة "أضنة" تحت ذريعة تحديث هذه البطاريات، ومن ثم سحب حاملة الطائرات الوحيدة تاركة المجال الجوي لمنطقة شرقي المتوسط بأسره للطيران الروسي.
استراتيجياً يمكن تفسير التوجه الأمريكي على أنه محاولة لجعل سوريا طعماً للروس من أجل جرهم إلى منطقة الشرق الأوسط بتناقضاتها وتعقيداتها، وإشغالهم بمشاكلها المستعصية على الحل، بهدف فك الارتباط بينهم وبين الصين، وإبعادهم عن منطقة الباسفيك الحيوية، حيث يريدون الاستفراد بالتنين الصيني الأشد خطراً على المصالح الاستراتيجية الأمريكية.
اعتمد الرئيس الروسي بوتين في غزوه لسوريا على تفهم الصين وإسنادها له في مجلس الأمن، وعلى التحالف الروسي – الإيراني في العمل والتنسيق الميداني، لأنه يعلم أن طهران لا تريد أن تنتظر الأمريكيين لكي يكملوا لعبة إعادة صياغة المنطقة من جديد، بل ترجح التنسيق مع موسكو لترتيب دورها الإقليمي القادم، إن الطرفين الروسي والإيراني متفقان على الإسراع في حسم المعركة في سوريا واقتسام الكعكة، لكن الأمريكيين والأوربيين على عكسهم تماماً، فهم ليسوا في عجالة من أمرهم، بل إن أوباما صرح بأن الحرب على داعش ممكن أن تستمر عشرين عاماً.
أما الحديث عن حلف بغداد الجديد على ضوء تأسيس مركز معلوماتي استخباري تم تأسيسه بين روسيا وإيران والنظاميْن العراقي والسوري مضافاً إليهم حزب الله تحت مسمى الحرب على داعش فمن المبكر أوانه. كما أن روسيا تركز أقدامها، من خلال علاقتها التي عادت قوية مع مصر التي أيدت بصراحة الغزو الروسي لسورية معللة ذلك بأنه يسهم في القضاء على الإرهاب. وربما تراهن روسيا على ترتيب علاقة أفضل مع المملكة العربية السعودية إذا نجحت في إخراج حل سياسي من دون وجود بشار الأسد على المدى المتوسط، لكن ما هي التداعيات الاستراتيجية على تركيا للوجود العسكري الروسي المستدام في سوريا؟
وأضح أن الرئيس الروسي بوتين -كما الإيرانيين– ماض قدماً في استعادة أمجاد روسيا القيصرية، ويحلم بإحياء عصر الإمبراطوريات من جديد بعد إفلاس الدول القطرية التي تم تأسيسها بناء على اتفاقية سايكس بيكو، وهو يتعاون في هذا الصدد مع الإيرانيين ويدعمهم في توجههم لإحياء إمبراطوريتهم الساسانية، مما شجع ملالي طهران على إعلان الحرب على المنطقة العربية، ومحاولة تطويقها من جميع الجهات، وهذا يفسر أيضاً مباركة الكنيسة الأرثوذوكسية للاجتياح الروسي لكل من شبه جزيرة القرم وسوريا واعتبارها حرباً مقدسة، وهذا ليس بغريب على هذه الكنيسة التي ما زالت تعتبر مدينة إسطنبول مدينة قسطنطين عاصمة العالم الأرثوذكسي يجب استعادتها من المحتلين الأتراك.
إذا تمكنت روسيا من احتلال سوريا والبقاء فيها فستكون قد أحكمت الخناق على تركيا استراتيجياً، وتكون قد طوقتها من ثلاث جهات، من الشمال بعد احتلالها لجزيرة القرم، ومن الشرق حيث القواعد العسكرية الروسية في أرمينية، ومن الجنوب حيث الوجود الفعلي للقوات المسلحة الروسية في سوريا، الذي لم يعد يقتصر على قاعدة عسكرية واحدة في طرطوس، فقد بات من الواضح أن الوجود الروسي في سوريا طويل الأمد ويشمل جميع سوريا وليس منطقة جغرافية بعينها، إذ الحرب على تنظيم داعش تعني انتشار الروس في جميع أنحاء سوريا، وما محاولة اختراق المجال الجوي التركي إلا بالون اختبار لجاهزية الأتراك وحساسيتهم، ولمدى دعم حلف الناتو لتركيا، وأعتقد أن هذه التحرشات ومحاولات الاستفزاز ستستمر تحت ذريعة حدوثها عن طريق الخطأ.
على ضوء التنسيق الروسي –الإسرائيلي من جانب والتنسيق الروسي– الإيراني من جانب آخر، ونزول الإيرانيين بقوات برية للقتال في سوريا يكون الحصار على تركيا قد استكمل جميع حلقاته. وهنا يكمن التحدي الأكبر أمام واشنطن وباريس ولندن وبرلين في التعاطي مع الهجمة البوتينية وآثارها، هل سيقفون مع تركيا التي حمت حدودهم الشرقية مع الروس طيلة ستة عقود؟
واضح أن الروس يتحركون من خلال دوافع وأهداف استراتيجية وليست تكتيكية مرحلية، ولن ينفع معهم أو يحد اندفاعهم بضعة مليارات من الدولارات للتبادل التجاري معهم، ولا العقوبات التي لم تردع إيران فضلاً عن أن تردع روسيا تنفع في إيقافهم.
إن محاولة القيادة التركية الفصل بين السياسة والتجارة، وتحييد العلاقات الاقتصادية على التجاذبات السياسية، وجعل التبادلات التجارية هاجساً ومبعث تردد، وعائقاً أمام اتخاذ قرارات استراتيجية حازمة ستكون له عواقب كارثية خطيرة تهدد الأمن الاستراتيجي لتركيا.
آن الآوان لأن تتمرد تركيا على أمريكا، كما فعلت المملكة العربية السعودية عندما بدأت نيران اليمن تطال أمنها الاستراتيجي، فمن باب أولى أن تتخذ تركيا الدولة الكبيرة والقوة الإقليمية المعتبرة خطوات جريئة باتجاه الأزمة السورية، ليس بالدخول في الحرب مباشرة، إنما بدعم الجيش الحر بأسلحة نوعية تمكنه من التصدي للغزو الروسي الإيراني، وفي ذلك حماية لتاريخها وشعبها ووحدة أراضيها وأمنها الاستراتيجي.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول