للدكتور عمار جيدل
تستهجن النفوس الكريمة إدانة المدنيين والسكوت عن العسكر، ويزداد الأمر استهجانا عندما تأتيك من إعلامي يتشدّق بالخدمة العمومية، ويتترّس في الواقع بقلعة من القلاع العسكرية، فإذا رأيته يناظر مع المظلومين، فذلك لا يتم إلا في إطار ما يسمح به صاحب المهماز، ومن أغرب ما سمعت اعتبار ما يقع في رابعة العدوية عصيانا مدنيا، والمعلوم أن العصيان يعدّ كذلك بالنسبة لجهة تُعْصى، فما هذه الجهة التي عُصيت، كي يسوغ أن نعد التظاهر السلمي للاسترداد الشرعية عصيانا؟
الموضوعية تستدعي التساؤل الآتي: لماذا التظاهر السلمي بقي ثابتا على موقفه، بالرغم من حرارة الصيف ورمضان، والترغيب والترهيب المنقطع المثيل؟ الثبات الذي واكبه ثبات الجبال الشامخات للرئيس الشرعي الذي رفض الدنية، ورفض أن تسرق ثورة وإرادة الشعب المصري، فحوّله هذا الصمود الأسطوري من مسجون إلى ساجن للزمرة الانقلابية، فتهافتت الجهات الدولية والعربية والغربية على زيارته في قصره "السجن"، ولم يظفر الذي عيّنه السيسي في سجن "القصر الجمهوري" بعُشُرِ ذلك الاهتمام، بل لم ينبس ببنت شفة أمام تسارع الأحداث، وظلت الاهتمامات منصبة على منفذ الانقلاب، الرئيس الفعلي للبلد، وهو شاهد إثبات الانقلاب على إرادة الشعب.
عندما يكون إعلامي مشهور يقلب الحقائق بالامتناع عن المساءلة الموضوعية، فهذا يجعلنا نشكك في موضوعية التحليل، ومخرجاته السياسية، لأنّ الإعلامي غير الشريف يبعد المساءلة الدقيقة في المسألة السياسية، إما بتزييف الوعي أو صناعة وعي مزيّف أو تشويش على تكوين رؤية موضوعية، أو تذكية الواقع السياسي بمُرْبِكَات المشهد، أو تلميع بعض الجهات، وخفض شعبية جهة أخرى، و...ومن ذلك تراه متغافلا عن عصيان العسكر للشرعية، أي إهمال العسكر إرادة المجتمع وفق الآليات الديمقراطية، والميل إلى مناصرة الجيش لمجموعات لا ظهير اجتماعي لها.
وضع هذا شأنه له كثيرمن التداعيات السلبية الظاهرة، وهو مما يدركه عامة الناس، فكيف بإعلامي كنا نظن أنّه اشتغل بالإعلام مددا طويلة أكسبته مهارة وقدرة على فهم المعطيات، وإذا بنا نكتشف أنّه شُغّل بالإعلام، ليكتب أحيانا حاشية على متون الحاكم الفعلي بأساليب فيها كثير من التمويه الذي يضيّع الفكرة ويقتل الحركة.
عصيان العسكر للشرعية الشعبية أسوأ بمراحل ضوئية للعصيان المدني إن وقع، مع تسليمنا بأنّ ما يحدث في مصر، ليس عصيانا مدنيا، فهل يعصي المجتمع نفسه، وهو مصدر الشرعية الانتخابية؟ الذي يعصي هو المخالف لإرادة المجتمع، لهذا نؤكّد أنّ العسكر المائل للقوى الفاشلة سياسيا والتي لا ظهير اجتماعي لها، هو صاحب العصيان، فهناك عصيان عسكر للشرعية، وليس العكس، كما يسوّقه الإعلام البلطجي في مصر وفي البلاد العربية والغربية.
عسكر يناصرون الفاشلين سياسيا، ويستقوي الفاشلون بالعسكر للإجهاز على الفصيل السياسي المؤيّد للشرعية الشعبية والدستورية، ويؤيّد العسكر وأحزاب جنّنتنا بالدستورية والديمقراطية، إلغاء الإرادة الشعبية، ويحبّبون للعسكر فتح المحتشدات وقطع الماء والكهرباء بل والهواء إنْ وجدوا إلى ذلك سبيلا، بل أكثر من ذلك يحرّضون على الكراهية وعلى القتل و...والعسكر القابل للقيام بهذه المهمّة عسكر في حالة عصيان للمجتمع، فكيف بعسكر يقود هذه المهمّة؟ ، والواقع أنّ وزير خارجية(من حزب الدستور) السيسي كان صريحا في تصريحه لدير شبيجل الألمانية، عندما قال:" لجأنا للجيش للتخلص منه" يقصد التخلّص من الشرعية، فالحكومة الانقلابية تستقوي بعصيان العسكر للشرعية، فكلاهما غير شرعي بكلّ المعايير الدستورية والقانونية والأخلاقية، لهذا نقول لإخواننا في رابعة لا تعيروا بالا لمن رماكم بالعصيان المدني، لا لأنّكم لستم كذلك فحسب، بل لأنّ البلاطجة من الإعلاميين والسياسيين المسوقين لهذه المعاني يريدون من المجتمع أن ينسى عصيان العسكر للشرعية والإرادة الشعبية، ويشتغل بردّ ترّهات لا معنى لها خارج رؤوس منتجيها ومسوقيها.
إنّ أهلنا عندنا يرابطون في رابعة العدوية وغيرها من الميادين، سيدفعون كثيرا الأمراض السياسية والتربوية والحضارية، رأسها أنّ من أهمّ النتائج المباشرة لنجاح عصيان العسكر :
1-انسحاب المجتمع من عملية التغيير السلمي بطريق الآليات الديمقراطية، وفي ذلك خطر كبير على نظرة المجتمع لآليات التغيير السلمي، وتضييع الشراكة السياسية الحقيقية التي تعني تأطير المجتمع لكلّ شؤون حياته، ولو لم يكن من المرابطة في ميادين الشرف إلاّ الحفاظ على الحراك السياسي ببعده الجماهيري، الذي يقتضي حضور المجتمع في تقريره مصيره، لكانت كافية في الدعوة إلى وجوب الحفاظ عليها، لأنّ الحراك السياسي الحقيقي، هو أن يكون المجتمع بكلّ مكوناته حاضرا في الاختيار السياسي وتحمّل تبعاته.
2-إذا استؤصل من الفضاء السياسي الشرفاء أو سمحوا بأن يمر الانقلاب بغير دفعه، فستنتج عندنا طبقة سياسية أسوأ من الطبقة السياسية السابقة، لأنّها تهيئة لفضاء تهيمن عليه الطفليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لا تعيش في غير الجو الآسن ، لهذا تستميت في الدفاع عنه والموت دونه، كما هو مشاهد هذه الأيام من قِبل المرافعين عن الانقلابيين.
3-الثبات على مسلك السلمية، يمنع تكرار عصيان العسكر للشرعية ومن ثمّ المجتمع، كما يدفع إمكان استقواء الفاشل سياسيا بالعسكر في قابل الأيام، فتساعدوا الجيش على التحوّل من عسكر يفتّش عن شعب إلى جيش الشعب، وبهذا تقدّمون خدمة رائعة وراقية لمؤسسة الجيش، الذي أراد الفاشلون تحويله إلى جيش يزاول عصيانا عسكريا ضد الشرعية التي انتخبت رئيسا مدنيا.
4- ثبات الشعوب أمام المحن السياسية تزيد من ثقة القيادات السياسية والفكرية في الطاقات الفردية والجماعية، وتجعلهم يؤسسون برامجهم على القدرات الذاتية للمجتمعات عوض انتظار الصدقات التي قد تأتي وقد لا تأتي، وبهذا فإخواننا في ميادين العزّة بثباتهم يرسلون رسائل تطمين للقيادة والمجتمع، ويصرحون بحالهم قبل مقالهم: فهمنا ما يراد بنا، فنحن على درب استعادة العسكر للشعب بعودة العسكر عن الانقلاب على الشرعية.
5- ثباتكم السلمي في ميادين الشرف تطمين للرأي العام العالمي، وتأسيس لمسالك جديدة في العلاقات الدولية، مفاده أنّ المراهنة الحقيقية في العلاقات الدولية تكون على القوى التي تملك ظهيرا اجتماعيا قويا، فلا تراهن على جهات تستقوي بالآليات العسكرية في النزال السياسي، ولا أظن عاقلا على المستوى الإنساني، يتصوّر حماية مصالحه بقوى لا سند لها غير آلات البطش والتنكيل بالمخالفين.
6-لعلّ من الحسنات الكثيرة لثباتكم أنّكم أسعفتم المترددين في شأن تحليل الواقع المصري بعد 25 يناير، سواء كانوا من المصريين أو غيرهم، فقد كنت أناقش المصري وغيره، فأراهم وقد انطلت عليه حيل التشويه والتشهير، وما زادني واقع الانقلاب إلاّ تأكيدا لما كنت أقوله، فقد ذكرت في كثير من الأحيان أنّ الطفليات الإعلامية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والرياضية،...لن تسمح بسهولة بتطهير الجو الآسن، ووفق سنن التدافع يفهم هذا الأمر، إذ ليس مستغربا، ولكن المستغرب أن يظهر من كنت تظنّه طاهرا مُطَهِّرا طفيلا بامتياز، فتراه مدافعا عن عصيان العسكر مُدينا لميادين الشرف، لأنّها حسب تقديره أو بحسب ما طلب إليه عصيان مدني، لهذا نقول يسقط عصيان العسكر للشرعية، ويسقط كلّ نصير له، وسيعلم الذين أيّدوا الانقلاب أنّ عصيان العسكر للشرعية هو ضرر أكبر بأضعاف مضاعفة من خروج المجتمع للمطالبة بالشرعية.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول