الطائرة الروسية وفيضانات الإسكندرية؛ والتعليل الثأري

 

بعدَ ما شهدته الاسكندريّةُ من فيضاناتٍ أغرقت مساكنَ وقضى من تأثيرها عددٌ من أبناء مصرَ سارعت أقلامٌ كثيرةٌ إلى تأويل ذلكَ بأنّه انتقامٌ من الله تعالى جزاءَ إغراق السيسي حدودَ قطاعِ غزّةَ فأغرقهم الله تعالى ردًّا على ذلك!

واليوم سارَعت أقلامٌ كثيرٌ إلى التعاطي مع حادثةِ سقوطِ الطّائرة الرّوسيّةِ في سيناء بالطريقةِ ذاتها، إذ إنّ سقوطها ـ على حدّ تعبيرهم ـ ثأرٌ لشهداء دوما وحلب الذين قتلهم الطيران الروسي المجرم البارحة، ويدعمون ذلك بما يدلل على العدالة الالهيّة المتمثّلة في تقارب عدد القتلى البالغ 224 قتيلا مقابل 200 شهيدًا بغارات الطيران الروسي البارحة.

وهذه الطريقة في التعليل فضلا عن كونها انجرافٌ عاطفيٌّ بحتٌ في تفسيرِ الأحداثِ فإنّها تنطوي على مغالطات منهجيّة وقيميّة كبيرة، ومنها:

أولًا: مع التسليم المطلقِ بأنّ الله تعالى هو المنتقم، وأنّه يسخّرُ نواميسَ الكونِ لإيقاعِ انتقامه، إلّا أنّ الانتقام الالهيّ منسجمٌ أيضًا مع العدل الذي هو اسم وصفة الله جلّ في علاه، والعدلُ يقتضي أن يكونَ الإنتقام من الظّالم المجرم وزبانيتِه وشركائه، وأن نعُدّ أهل الاسكندريّة الغرقى هم من جندُ الطاغية السيسي، وركّاب الطّائرةَ المتحطّمة من حاشية المجرم بوتين؛ فهذا غيرُ سليمٍ على الإطلاق، فإنّ نظرةً يسيرةً تجعلك توقنُ بأنّ أهل الاسكندريّة يعانونُ من ظلم السيسي كما يعاني إخوانهم في قطاع غزة من ظلمه وإجرامه، وركّاب الطائرة المدنيّة فقد يكون فيها ركّابٌ من الروس وغيرهم من الشعوب المسلمة والعربية كحالِ أية طائرة مدنية، وأما الركّاب الروس فيها فحالهم المفترَض أنهم كعموم الشعب الروسي الذي لا يملكُ من أمره شيئًا ككلّ الشعوب التي تعيش على أنقاض الاتحاد السوفييتي الذي أورثها الاستبداد، وإذا كانَ انتقامُ الله تعالى من الطغاة المجرمين سيقع على من ليس له صلةٌ بهذا المجرم سوى كونه يعيشُ في دولةٍ يحكمها الطّاغية؛ فما هو معنى قول الله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) إذن؟!

ثانيًا: إنّ هذه الطريقةَ من تعليلِ الحوادثِ تنطوي على التّخلّي عن المسؤوليّة، بحيثُ نعدّ هذا التّدخلّ الإلهيّ ثأرًا لنا ممّن عادانا، وهو الردّ على جرائم الطّغاةِ المتجبّرين، على وفق قاعدةِ عبد المطلّب (إنّ للبيتِ ربًّا يحميه) التي قالَها بينَ يدَي تبريره تركَ الدّفاع عن البيتِ في وجه أبرهة، ولئن كانَ هذا مُتَفَهَّمًا من عبد المطلب كونه ليس بين يديه من أنوار الوحيّ ولا هدي التنزيلِ شيءٌ، ولا هو في دائرةِ التّكليفِ، ويومها تدخّلت الطيرُ الأبابيلُ إذ انعدمَ وجودُ المكلّفينَ، أمَّا أن يأتي المكلّفونَ بالوقوفِ في وجهِ العدوانِ، والمكلفون بأن يكونوا هم جند الله تعالى لنصرةِ دينِه بالإغراقِ في تحميلِ الحوادث أكثرَ ممَّا تحتمل، وتبريرِ الكوارثِ بأنّها ردّ الله تعالى على العدوانِ الواقعِ عليهم؛ فهو من تبريرِ التخلّي عن التكليفِ الذي يصفعُ الجميع بحقيقةٍ مفادُها: بدلَا من نشوتِكم بما تظنّونه الردّ الإلهيّ على جرائم السيسي وبوتين فهلّا أجبتُم أينَ هوَ ردّكم أنتم وقد كلّفكم الله تعالى به؟!

إنّ الله تعالى منتقمٌ ولكنّه ينتقمُ من المجرمين فهو العدل العزيز الحكيم، وهوَ الذي أمرَ عباده بأن يكونوا جندًا يثأرونَ لدينِهم وعقيدتِهم والمستضعفين من إخوانِهم، فإن تخلّوا عن هذا التكليف وبدؤوا يبحثونَ عن انتقامٍ إلهيٍّ يرضونَ به أنفسهم ويقنعون به ذواتِهم ولو من خلال تفسيرٍ غير منطقي للحوادثِ؛ فعليهم أن يعلموا أنّ سنّةَ الله تعالى فيمن نكثوا عن الجنديّة لله تعالى هي الاستبدالُ، كما بيّن الله تعالى في قولِه: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)

 

#الطائرة_الروسية

#فيضانات_الاسكندرية

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين