
{مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: 179]
كتب العلامة الشيخ رشيد رضا - رحمه الله تعالى - في تفسير المنار، الجزء الرابع، ص 253 – 254، تحت عنوان "الشدائد – فوائدها":
{مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} قرأ حمزة: {يَمِيزَ} بتشديد الياء من التمييز، والباقون بتخفيفها من ماز.
قال الأستاذ الإمام: كان الكلام مسترسلا في بيان حال المؤمنين في واقعة أحد وما بعدها، وجاء في السياق بيان حال من ظهر نفاقهم وضعفهم، وبيان حال المجاهدين والشهداء ومن هم بمنزلة الشهداء، وحال الكفار المهددين للمسلمين، وكون الإملاء لهم واستدراجهم بطول البقاء في الدنيا ليس خيرًا لهم، وقد كانت واقعة أحد أشد واقعة أحس المسلمون عقبها بألم الغلب؛ لأنهم لم يكونوا يتوقعونه بعد رؤية بوادر النصر في «بدر»، ولأنه ظهر فيه حال المنافقين، وتبين ضعف نفوس بعض المؤمنين الصادقين، ولذلك كانت عناية الله تعالى ببيان فوائد المسلمين فيها عظيمة، ومنها ختمها بهذه الآية الكريمة المبينة لسنة من السنن التي ذكرت في سياق تلك الآيات الحكيمة، والمعنى: ما كان من شأن الله تعالى ولامن سنته في عباده أن يذر المؤمنين على مثل الحال التي كان عليها المسلمون عند حدوث غزوة أحد حتى يميز الخبيث من الطيب. وكيف كانوا؟
كانوا يصلون ويمتثلون كل ما يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ومنه إرسال السرايا المعتاد مثلها ولم تكن فيها مخاوف كبيرة على الإسلام وأهله؛ ولذلك كان يختلط فيها الصادق بالمنافق بلا تمييز، إذ التمايز لا يكون إلا بالشدائد. أما الرخاء واليسر وتكليف ما لا مشقة فيه كالصلاة والصدقة القليلة فكان يقبله المنافقون كالصادقين لما فيه من حسن الأحدوثه مع التمتع بمزايا الإسلام وفوائده، وربما خدع الشيطان المؤمن الموقن بترغيبه في الزيادة من أعمال العبادات السهلة، ولاسيما إذا كان داخلا في دين جديد لما في ذلك من الرياء والسمعة، والاستواء في الظاهر مدعاة الالتباس والاشتباه.
الشدائد تميز بين القويّ في الإيمان والضعيف فيه، فهي التي ترفع ضعيف العزيمة إلى مرتبة قويها، وتزيل الالتباس بين الصادقين والمنافقين، وفي ذلك فوائد كثيرة، منها:
أن الصادق قد يفضي ببعض أسرار الملة إلى المنافق لما يغلب عليه من حسن الظن والانخداع بأداء المنافق للواجبات الظاهرة، ومشاركته للصادقين في سائر الأعمال، فإذا عرفه اتقى ذلك.
ومنها: أن تعرف الجماعة وزن قوتها الحقيقية لأنه بانكشاف حال المنافقين لها تعرف أنهم عليها لا لها، وبانكشاف حال الضعفاء الذين لم تربهم الشدة تعرف أنهم لا عليها ولا لها.
هذا بعض ما تكشفه الشدة للجماعة من ضرر الالتباس، وأما الأفراد فإنها تكشف لهم حجب الغرور بأنفسهم، فإن المؤمن الصادق قد يغتر بنفسه فلا يدرك ما فيها من الضعف في الاعتقاد والأخلاق؛ لأن هذا مما يخفى مكانه على صاحبه حتى تظهر الشدائد.
فما كان هذا اللبس ضارًّا بالأفراد والجماعات، ولم يكن من شأن الله ولا من حكمته أن يستبقي في عباده ما يضرهم، مضت سنته بأن يميز الخبيث من الطيب، فتظهر الخفايا وتبلى السرائر، حتى يرتفع الالتباس ويتضح المنهج السويّ للناس.
قد يخطر في البال أن أقرب وسيلة لرفع اللبس هي: أن يطلع الله المؤمنين على الغيب فيعرفوا حقيقة أنفسهم، وحقائق الناس الذين يعيشون معهم، ولكن الله تعالى أخبر أن هذا ليس من شأنه ولامن سنته، كما أن ترك الالتباس والاشتباه ليس من سنته فقال: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} وإنما لم يكن من شأنه إطلاع الناس على الغيب لأنه لو فعل ذلك لأخرج به الإنسان عن كونه إنسانًا، فإنه تعالى خلق الإنسان نوعًا عاملا يحصل جميع رغائبه ويدفع جميع مكارهه بالعمل الكسبي الذي ترشده إليه الفطرة وهدي النبوة، ولذلك جرت سنته بأن يزيل هذا اللبس ويميز بين الخبيث والطيب بالابتلاء بالشدائد، وما تتقاضاه من بذل الأموال والأرواح في سبيله التي هي سبيل الحق والخير لا سبيل الهوى، كما ابتلى المؤمنين في واقعة أحد بجيش عظيم، وابتلاهم باختيار الخروج لمحاربته، وابتلى الرماة منهم بالمخالفة وإخلاء ظهور قومهم لعدوهم، ثم ابتلاهم بظهور العدوّ عليهم جزاء على ما ذكر حتى ظهر نفاق المنافقين، وزلزال ضعفاء المؤمنين، وثبات كملة الموقنين.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول