خوف النبي صلى الله عليه وسلم من ربه وخوفه على أمته:
إذا كان الخوف من الله تعالى ناشيء عن العلم بعظمته فإن أعرف الناس بالله وبعظمته وجلاله ، هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخبر بذلك عن نفسه ، فقال فيما روته عائشة رضي الله عنها: (ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله إني لأعلمهم بالله ، وأشدهم له خشية ) رواه البخاري (5636) ، ومسلم (2356).
وفي رواية قال: (أما إني لأتقاكم لله ، وأخشاكم له) رواه مسلم (1863) من حديث عائشة رضي الله عنها أيضاً.
وقد وصفه الله تعالى بالخوف منه سبحانه ، فقال: [قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الفَوْزُ المُبِينُ] {الأنعام:15- 16}. وقد وردت الشواهد الكثيرة من الأحاديث الشريفة في شدة خوفه من ربه:
خوفه صلى الله عليه وسلم من ربه:
1 ـ قال صلى الله عليه وسلم (يا أمة محمد ، والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً، ولضحتكم قليلاً) أخرجه البخاري(6141)، ومسلم (1499) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وهذا الحديث يُفسِّر لنا حاله صلى الله عليه وسلم من آيات ربه، وحاله في عبادته.
كحديث عائشة رضي الله عنها الذي قالت فيه: (ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لَهَواتِهِ ـ وهي اللحمة الحمراء في سقف أقصى الفم ـ إنما كان يتبسَّم ، قالت: وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف ذلك في وجهه ، فقالت: يا رسول الله ، أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عَرفت في وجهك الكراهية؟ قالت: فقال يا عائشة: ما يؤمِّنني أن يكون فيه عذاب ، قد عُذِّب قوم بالريح ، وقد رأى قومٌ العذاب فقالوا: [قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا] {الأحقاف:24} . رواه البخاري(4454)، ومسلم (1497).
وكحديث عبد الله بن الشَّخِّير رضي الله عنه ، قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلِّي ولجوفه أزيزٌ ـ أي حركة واهتياج وحدَّة ـ كأزيز المِرْجَل ـ أي كغليان القِدْر ـ ، من البكاء) رواه أحمد (15722) ، والنسائي (1199)..
وفي رواية: (كأزيز الرحى ـ الحجر التي يطحن عليها الدقيق ـ من البكاء) رواه أبو داود(769) والترمذي في الشمائل (305).
ومن هذين الحديثين يُعلم مبلغه صلى الله عليه وسلم من الخوف من الله عزَّ وجل ، ويُستدل من ذلك على عظيم معرفته بالمولى جلَّ جلاله ، حيث كان يخاف ذلك الخوف ، مع أنه سبحانه قد أمَّن جنابه ، وأعلى منزلته عنده ، حيث اصْطَفاه لختم رسالاته ، ولأفضل شرائعه حتى صار لربه خليلاً.
خوفه على أمته صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم يخاف على أمته فتنة الدنيا ، وفتنة الذنوب والشِّقاق ، رحمةً منه بأمته صلى الله عليه وسلم ، كما أفادت ذلك أحاديثه الكثيرة ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:
1 ـ (إنِّي واللهِ ما أخافُ عليكم أن تُشركوا بعدي ، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها ـ يعني الدنيا ) أخرجه البخاري (1258)، ومسلم (4248) من حديث عقبة بن عامر.
ويقول: (فواللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تُبْسَطَ عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تَنَافسوها ـ أي: الأمم السابقة ـ فَتُهلِكَكَم كما أهلكتهم) رواه البخاري(3712)، ومسلم (5261) من حديث عمرو بن عوف.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أكثر ما أخاف ما يُخْرِجُ اللهُ لكم من زهرة الدنيا). قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال: (بركات الأرض ) أخرجه البخاري(1372) ، و مسلم (1743) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
الأسباب الموجبة للخوف من الله تعالى:
إنَّ الأسباب التي توجب على المؤمن الخوف من الله تعالى كثيرة، منها:
1 ـ خوف المؤمن من المعاصي وارتكاب ما نهى الله عنه.
2 ـ خوف المؤمن من الصغائر ومحقَّرات الأعمال.
3 ـ خوف المؤمن من الرياء في عمله، أو قوله، أو حاله.
4 ـ خوف المؤمن من النفاق على نفسه.
5 ـ خوف المؤمن أن يكون مقصِّراً في عهده مع الله تعالى ومع رسوله صلى الله عليه وسلم.
6 ـ خوف المؤمن عدم قَبول عمله.
7 ـ الخوف من زَيْغ القلب عن الهدي المستقيم.
8 ـ خوف المؤمن سُوء العاقبة والخاتمة.
9 ـ خوف المؤمن من مناقشته في الحساب.
10 ـ خوف المؤمن من موقف السؤال.
11 ـ خوف المؤمن من مقام ربِّ العالمين.
الأول: خوف المؤمن من المعاصي وارتكاب الذنوب:
وقد خوّف الله عباده من العذاب عليها، فقال تعالى مخاطباً نبيَّه صلى الله عليه وسلم:[قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ] {الأنعام:15}.
وقال سبحانه: [إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ] {يونس:15}. وهذا وإن كان أمراً من الله تعالى أن يقول ذلك ، فهو تقرير لحقيقة حاله صلى الله عليه وسلم ، ووصف له بتلك الصفة الإيمانية.
فكان صلى الله عليه وسلم يخاف على نفسه من المعصية ، وقد عصمه الله تعالى ، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وأخبر سبحانه أنه ليس من شأن المؤمن أن يُصرَّ على المعاصي والمخالفات، بل يتباعد عنها، وإذا وقع في شيء منها فإنه يبادر إلى التوبة فيتوب الله تعالى عليه. قال تعالى:[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] {آل عمران:135}.
وقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن عذاب المسلمين من أهل المعاصي الذين أحاطت بهم ذنوبهم، ولم تشملهم المغفرة، فإنهم دخلوا جهنم حتى صاروا فحماً:
روى مسلم (185) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أهلُ النَّار الذين هم أهلها (يعني الكفار) فإنهم لا يموتون ولا يَحْيَونَ، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم ـ وهم العصاة من المسلمين ـ فأماتتهم إماتةً حتى إذا كانوا فحماً أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائرـ أي: جماعات ـ فبثُّوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم من الماء، فينبتون نبات الحبة في حميل السَّيل».
فهذا يدلُّ على أنَّ العصاة المسلمين يُعذَّبون بذنوبهم، وأنَّ النار تحرق لحومهم ويتألمون حتى يصيروا فحماً.
***
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول