وحده الإسلام الذي يمنح الإنسان الحرية دون أن يكلفه عناء طلبها والبحث عنها ؛ بل اعتبرها من أخص خصائص الإنسان التي لا يجوز له التفريط فيها أو إضاعتها ، حتى حرية العقيدة التي يشاؤها شخص لا يحق لأحدٍ إكراهه على غيرها ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) الكهف - 29 ( لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشدُ من الغيّ ) البقرة - 256.
يقول محمد طاهر بن عاشور : ( إن الحرية خاطر غريزيّ في النفوس البشرية ، فبها نماء القوى الإنسانية ، وبها تنطلقُ المواهب العقليّة متسابقة في ميادين الابتكار والتقييد ، فلا يحقّ أن تُسام بقيدٍ إلا قيداً يُدفع به عن صاحبها ضرٌ ثابت ، أو يُجلبُ به نفع).
فالحرية بهذه المعاني تُزكّي الأخلاق ، وتعلي الهمم وتعز النفوس فتغرس فيها الإباء فتجتنب المعايب . كما قال مُخَيْس بن أرطاة التميمي :
فقلتُ لهُ تجنّب كل شيء ،،، يُعاب عليكَ إن الحرّ حر
أي أن الحرّ باقٍ على ما عُهد في الأحرار من علو الهمّة ، وزكاة الأخلاق ، واجتناب مواطن الريب ، وتركِ كل ما يُعاب به المرء ، وعن كل ما يحوج إلى الاعتذار عنه.
والعبودية تمسخ إنسانية الإنسان ، وتفسد فطرته ، كما قال سيد قطب رحمه الله :( وليس أشدّ إفساداً للفطرة ، من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل ، والذي يحطم فضائل النفس البشرية ، ويحلل مقوماتها ، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد : استخذاء تحت سوط الجلاد ، وتمردًا حين يرفع عنها السوط ، وتبطرًا حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة)
قال شوقي :
وإذا سبى الفرد المسلط مجلساً ،،، ألفيت أحرار الرجال عبيدا
الحرية فريضة :
لقد فرّط علماء الأمة ومثقفوها ومفكروها في تبيان حق فريضة الحرية ، الأمر الذي كان له أكبر الأثر في تخلف الأمة وتأخرها ، وجعلها مقودة بعد أن كانت قائدة ، ذليلة بعد أن كانت عزيزة ، مهانةً بعد أن كانت مكرمة . وهذا التفريط أدى إلى تسلط الفراعين والقوارين وثقل وطأتهم على هذه الأمة ، وسومها سوء العذاب .
قال المتلمس :
إن الهوان حمار البيت يألفه *** والحر ينكره والفيل والأسد
ولا يقيم بدار الذل يألفها *** إلا الذليلان عير الحي والوتد
وكان الأجدر بعلماء الأمة أن يحيوا فقه الحرية ، ويغرسوا في النفوس فن صناعتها والمطالبة بها ، وينفخوا فيهم روحها ، والتغني بلذاذتها .. وقادتنا العظام وعلماؤنا السابقون أوضحوا هذا المفهوم إيضاحاً بيّناً . فقد ذكر ابن قدامة في المغني : والحرية حقٌ لله تعالى ، فإن الله تعالى خلق آدم وذريته أحرار ، وإنما الرق لعارض ، فإذا لم يعلم هذا العارض فله حكم الأصل .
وسار على نهجه الشوكاني لما رأى جذوة الحرية قد خبت في النفوس صاح فيهم صيحته قائلا: والحرية حق لله تعالى ، فلا يقدر أحدٌ على إبطاله إلا بحكم الشرع ، فلا يجوز إبطال هذا الحق ، ومن ذلك لا يجوز استرقاق الحر ولو رضي بذلك .
الإمام البنا البصير الحاذق:
ويذهب الإمام البنا إلى مدى أبعد غوراً ، وأكثر بصيرةً من ابن قدامة والشوكاني .. وهذا من فقهه الدقيق وفهمه العميق لمرامي الشريعة والحياة ، فلله درّه حيث يقول معلماً ومبصراً ومجيباً للمتسائلين في رسالة بين اليوم والأمس :
إذا قيل لكم: إلام تدعون ؟ فقولوا : ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، والحكومة جزء منه ، والحرية فريضةٌ من فرائضه ، فإذا قيل لكم : هذه سياسة ، فقولوا : هذا هو الإسلام ، ونحن لا نعرف هذه الأقسام .
فالحرية إذاً فريضة من فرائض الإسلام ، لا يجوز التفريط بها ولا التخلي عنها ، ومعنى هذا: أن المفرط بها والمتخلي عنها والراضي بالاستعباد آثم ومقترف للمعصية لتخلِّيه عن هذا الحق الذي وهبه الله له ، وتفريطه في المطالبة بفريضة الحرية . والتخلي والتفريط مؤداه الوقوع في هاوية المهانة والذل ( من كان يريد العزَّة فللَّه العزّة جميعاً )
إنه لن يحني رأسه لمخلوق متجبر ، ولا لعاصفة طاغية ، ولا لحدث جلل ، ولا لوضع ولا لحكم ، ولا لدولة ولا لمصلحة ، ولا لقوة من قوى الأرض جميعاً . وعلام ؟ والعزة لله جميعاً
يقول الشافعي:
همتي همة الملوك ونفسي *** نفس حر ترى المذلة كفرا
وعلى هديه يصرخ آخر متعجباً :
عجبت من مؤمن يرضى الهوان وما *** يرضاه إلا الألى بالله قد كفروا
لقد عاشت أمتنا دهرا وهي ترى من يدافع عن حرية من نوع غريب .. يعبر عنها محمد الغزالي بمرارة : إن في بلادنا من يدافع عن حرية الإلحاد والسكر والزنا بلسان طلق ، فإذا حُدِّث عن حرية الإيمان والعفاف واليقظة الفكرية امتعض واشمأز ، فهل يجر الهزيمة والعار إلا مثل هؤلاء الدواب .
فهل يليق بأمة صاح فيها عمر بن الخطاب صيحته الموقظة :" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار ".. هل يليق بها أن تظل تتلظى بنيران الاستعباد والاستبداد .. أم آن لها أن تستيقظ من سباتها ، وتنهض من كبوتها ، وتفيق من رقدتها .. وإننا لنرى أوان فجر الحرية ينبثق من ركام الظلام .. وها هم الأحرار ملء السمع والبصر يصدحون بنشيد الحرية ، وها هم الأبطال يناجزون في ساحات الوغى لاسترداد فرض الحرية السليب
ورحم الله شوقي :
ففي القتلى لأجيال حياة *** وفي الأسرى فدى لهم وعتق
وللحريـــــــــة الحمراء باب *** بكل يـــــــــــــــد مضــــــــــــــــــــرجة يدق
جزاكم ذو الجلال بني دمشق *** وعز الشرق أوله دمشق
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول