محمد فتحي النادي
مصطلح (الأيديولوجيا) من أكثر المصطلحات التي يَكْثُر فيها القيل والقال في هذه الأيام بعد الثورات العربية، وكان هذا المصطلح منتشرًا بين النخب الفكرية والثقافية فيما سبق، ولكنه الآن أصبح دارجًا على الألسنة.
وقد ارتبط هذا المصطلح ارتباطًا وثيقًا بالماركسية, وفي الوقت الذي بدأت تنحصر فيه الأيديولوجيات اليسارية انتعشت الأيديولوجيات الليبرالية وكذا الإسلامية.
ولإلقاء الضوء على هذا المصطلح وعلاقته بالثورة قام الباحث في الفكر الإسلامي (محمد فتحي النادي) ببحث تلك العلاقة في كتابه الجديد: "الأيديولوجيا والثورة.... إشكاليات المصطلح والعلاقات"، والذي صدر عن دار طابة للنشر والتوزيع بالقاهرة في 88 صفحة من القطع المتوسط (14×20).
وقد استهلّ الباحث كلامه بالبحث في نشأة هذا المصطلح وتاريخه، وأشار إلى أن أول من استخدم تعبير "الأيديولوجيا" الفيلسوف الفرنسي أنطوان دستوت دو تراسي (1754 أو 1755 – 1836) في كتابه: "مشروع عناصر الأيديولوجيا" (1801م).
وأشار إلى أن مجتمعنا العربي قد عرف هذا المصطلح منذ منتصف القرن العشرين.
ثم تناول المؤلف بعد ذلك التعريفات التي تناولت هذا المصطلح، وبدأ بمعناها اللغوي، وهذه الكلمة مكونة من مقطعين أصلهما إغريقي: (Ideo) وتعني: (فكرة) أو تصور (Idea)، و(logos) وتعني حرفيًّا "كلمة"، ولكنها تعني "دراسةً" أو "علمًا". ومن هنا جاء معناها الذي هو (علم الأفكار).
أما التعريف الاصطلاحي فيذهب كارل ماركس [1818-1883م] إلى أنها مجموعة من الأفكار التي تفرضها الطبقة المهيمنة في المجتمع على باقي أفراد المجتمع.
وأشار المؤلف إلى تعريفات كثيرة، وانتهى إلى نتيجة مفادها أنه مهما تتبعنا التعاريف لحصرها فلن يجدينا في شيء بخصوص تكوين مفهوم واضح محدد لمصطلح الأيديولوجيا، وما يحيط به من غموض والتباس.
ثم حاول المؤلف أن يجيب عن سؤال هو: (هل هناك ترجمة عربية لهذا المصطلح؟) وعرض لرأي العروي وفرحان اليحيى وغيرهما الذين رأوا أنه يمكن تعريب المصطلح بكلمة (أدلوجة) على وزن أفعولة، وتصريفه وفق قواعد اللغة العربية، وقد يقابله كلمة عقيدة، إلا أن الدكتور عبد الوهاب المسيري كان على النقيض من ذلك فقال: إن هذا المصطلح غريب على اللغة العربية، ونظرًا لغرابته يصبح نحت فعل منه مسألة صعبة للغاية.
ثم تناول المؤلف (تطور مفهوم الأيديولوجيا) حيث إنه أصبح هذا المصطلح لا يعني علم الأفكار فحسب، بل النظام الفكري والعاطفي الشامل الذي يعبر عن مواقف الأفراد حول العالم والمجتمع والإنسان.
ثم تحدّث عن (المفاهيم الأساسية للأيديولوجيا)، والتي وضّحها على النحو التالي:
أ- المفهوم السياسي. ب- المفهوم الكوني/ رؤية العالم. ج- المفهوم المعرفي.
ثم تناول (استعمالات مفهوم الأيديولوجيا)، والتي حددها العروي في خمسة استعمالات رئيسة:
أولاً: استعمال القرن الثامن عشر.
ثانيًا: استعمال الفلاسفة الألمان.
ثالثًا: الاستعمال الماركسي.
رابعًا: استعمال نيتشه.
خامسًا: استعمال فرويد.
ثم عرض لقضية (نقد الأيديولوجيا)؛ حيث تعرّضت لنقد معرفي، انطلاقًا من التعارض بينها وبين العلم من ناحية، وبين النقد الفلسفي من ناحية ثانية؛ فهايديجر (Heidegger) يرى أن الأيديولوجيا تفكير جاهز تمارسه الجماعة، ويعفى الفرد من عناء التحليل والتساؤل. لذلك فإن الذين ينخرطون في أيديولوجيا معينة بوصفها فكرًا جاهزًا يشعرون بفخر المعرفة وغبطة امتلاك الحقيقة، ويكتفون بترديد الصيغ الجاهزة.
وبعدها ألقى الضوء على قضية (أهمية الأيديولوجيا)؛ حيث يرى البعض أن الأيديولوجيا تبدو أساسية لأي مجتمع، وبعدًا من أبعاده، وأن نفيها يعد خروجًا على الحقيقة والموضوعية.
ووما يتصل بما سبق الحديث عن (أبعاد الأيديولوجيا)، والتي تناولها فيما يلي:
أ- البعد الاجتماعي والتاريخي.
ب- البعد الفكري والعلمي.
ج- المظهر العملي / التطبيقي.
ثم تحدّث عن العلاقة (بين الدين والأيديولوجيا)، ثم أردف ذلك بالحديث عن (وظائف الأيديولوجيا)، والتي يرى (بخلر) أنها الأيديولوجيا لصيقة الصلة بالسياسة؛ لذا فإنه عندما تحدث عن وظائف الأيديولوجيا كان يتحدث عن الوظائف التي تخدم السلطة، وقد اقتصر على خمسة عناصر ارتآها:
«الأولى: وظيفة التجمع.
الوظيفة الثانية: التبرير.
الوظيفة الثالثة: الإخفاء.
الوظيفة الرابعة: وهي الأقل وضوحًا تتمثل في التعيين.
الوظيفة الأخيرة: هي تجويز الإدراك.
ثم تناول (أزمة الأيديولوجيا)، وكيف أن المأزق قد يكون ناشئًا -كما يرى د. ناصيف- من أن تصل إلى غايتها وتتحوّل مؤسسات وممارسات وأعرافًا وعادات، وتحقّق تمامًا ما وعدت به، فتصبح أمام وضع تقليدي جديد تستمر فيه حتى تنشأ انقلابة اجتماعية تاريخية تستدعي رؤية جديدة تعجز الأيديولوجية السائدة عن توفيرها، وترفض أن تعترف بهذا العجز.
ثم بعد حديثه عن (الأيديولوجيا والهوية) و(الأيديولوجيا الشمولية والعنف) و(الأيديولوجيا وتشكيل الرؤية للآخر)، ثم (علاقة الفلسفة بالأيديولوجيا) وعلاقتها بالمثاليات تناول مسألة: هل الصراع القائم بين البشرية
صراع حضارات أم صراع الأيديولوجيات؟
وتناول هانتنجتون هذه المسألة بقوله: العالم مقبل على حلقة صراع جديدة، تصطرع فيها القوى الكبرى المختلفة مسقطة كثيرًا من دوافع الصراع القديمة الأيديولوجية، وتصبح الحضارة المحرك الأعلى للصراع. ويذكر حلقات الصراع العالمي ودوافعه كالآتي:
1- بدءًا من الثورة الفرنسية أصبحت الخطوط الأساسية للنزاع خطوطًا بين الأمم وليس بين الأفراد كما كان الحال في عهد الإقطاع.
2- ثم جاء النزاع بين الأيديولوجيات والمذاهب فظهر الصراع ضد النازية والفاشية والشيوعية.
3- وأخيرًا ظهر صراع الحضارات والثقافات، وهي الحلقة الأخيرة بين حلقات الصراع العالمي.
وبعد ذلك تناول المؤلف مسألة هامة، وهي هل هناك نهاية لهذه الصراعات الأيديولوجية؟ وأشار إلى أن أبرز من يمثل هذا الاتجاه «فرانسيس فوكوياما» من خلال مقولته حول نهاية التاريخ في عام 1989م، وقد أضاف وشرح فوكوياما نظريته المثيرة للجدل في كتاب أصدره عام 1992 بعنوان: "نهاية التاريخ والإنسان الأخير".
ثم تحدث عن "صراع الأيديولوجيات في العالم الإسلامي"، عندما بدأت الإرساليات التنصيرية تعبث بالشعوب المسلمة وبعقائدها، ثم الاستشراق الذي حاول أن يَدرس المسلمين ليعرف كيف يفكرون فيضع الغرب الخطط لاحتواء المسلمين، وليفقد المسلمون ثقتهم بتراثهم وثقافتهم، لكنه نشأت الحركات التحررية، وظهر القادة المصلحون الذين عملوا جهدهم في تحرير المسلمين.
ووبيّن أن التيارات الفكرية أو الأيديولوجيات في العالم الإسلامي انقسمت إلى ثلاثة تيارات رئيسة:
1- أيديولوجية رأت أن كل ما يأتي به الغرب هو وافد يجب محاربته، وأنه لا خير في أي شيء يأتي من الغرب، وأن نهضتها في العودة لتراثها وأسلافها.
2- أيديولوجية رأت أن النهضة المرجوة تكمن في اتباع الغرب شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى تقليدهم في طريقة أكلهم ولبسهم وكلامهم.
3- أيديولوجية رأت أن هناك تخلفًا واضحًا عند المسلمين في الجانب الصناعي، ولكنهم يملكون المعين الذي لا ينضب وهو الإسلام، فرأوا أنه ليس كل ما يأتي من الغرب رجس يجب رفضه، وليس كله صالحًا حتى يتم قبوله.
وأشار سريعًا إلى خريطة الأيديولوجيات في العالم الإسلامي قديمًا وحديثًا.
ثم حاول المؤلف الإجابة عن هذا التساؤل: هل تجاوزت الثورات العربية الأيديولوجيات؟
وقدّم لذلك بأن الأيديولوجيات لم تُلبّ احتياجات تلك الشعوب وآمالهم وتطلعاتهم؛ فلم يقف اليساريون -إلا في النادر- بجوار العمال ووقفوا بجانب الرأسماليين، ولم يرفع معظم الليبراليين قيمة الحرية عندما ظُلم الإسلاميون، بل وقفوا بجوار الدول القمعية الديكتاتورية، ولم تنهض تلك الدول أو تتقدم في ظل حكم العلمانيين الذي جاوز نصف قرن.
لذلك كانت ثورات الربيع العربي ومضة أمل للخروج من استقطابات الأيديولوجيات المتنازعة، التي عملت لمصالحها الخاصة، وتناست هموم الشعوب، أو استخدمت تلك الهموم في باب المزايدات وتسجيل المواقف والنقاط.
وانصهر الجميع في ميدان التحرير، وذابت الفروق الأيديولوجية، وانكسر الستار الحديدي، وانعتق الجميع من إسار الرؤية السلبية عن الآخر، فلم تُصبغ الثورات بأيديولوجيا معينة، مما كان سببًا في نجاحها.
ولكن بعد وصول الإسلاميين للحكم لم يرض أصحاب المشروع العلماني بهذا الأمر، وأخذوا يتخندقون من جديد داخل أفكارهم التي تقصي الآخر، ولا تمد يدها لهم، لذلك فإن أصحاب الأيديولوجيات بعد هذه الثورات يجب عليهم أن يراجعوا مواقفهم، وألا يكون حالهم بعد الثورات كما كان قبلها، وإلا فستكون الثورة القادمة هي ثورة على الأيديولوجيات.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول