بقلم : أبي بكر الفاضلي الشامي
هذه كلمات،مدادها عبرات الأمهات،ودواتها قلوب اليتامى و اليتيمات..أخطها على هذه الصفحات،لتكون بلسماً لكل مكلوم،وسلوى وتسلية لكل مظلوم....
وقد حرّكني لكتابتها حروف كتبها الأخ نور الدين طالب في رثاء أخيه الشهيد علاء الدين الذي فرح بجوار الله منذ بضعة أيام، فقد ذكر أن والده جمع ولده الشهيد أشلاء ممزقة قد تطايرت في كل جهة...
هذا الوالد الذي يبحث عن أجزاء ابنه الشهيد ليضمّ بعضها إلى بعض،ألم ينفطر قلبه؟!ألم تنزف عيناه دماً؟!ألم تتقطع نفسه حسرة وألماً ..هذا حال الأب وهو أشد جلداً وصبراً..فكيف يكون حال الأم عندما ترى ولدها إرباً إرباً؟!!
لمثل هذا الأب ولمثل هذه الأم ولكل المنكوبين_وما أكثرهم!_أسطر هذه الصور التي لا تُنسي الأحزان ولا تقطعها،لكنها تُطيب النفس وتُسليها...
من هذه الصور المؤلمة:
_مشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلمّس عمه حمزة_أسد الله وأسد رسوله_وقد رآه ببطن الوادي في أحد قد بُقر بطنه عن كبده ومُثل به فجدع أنفه وصُلمت أذناه..فلما رأى ما رأى قال) لولا أن تحزن صفية-وهي عمته وأخت حمزة-ويكون سنة من بعدي،لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير حتى يحشر من بطونها وحواصلها يوم القيامة)!!!!!!!...
لقد تألم رسول الله ألمين كما يتألم الناس اليوم: لاستشهاد عمه وأخيه في الرضاعة وسيفه المسلول على رقاب المشركين،وللتمثيل الشنيع الحاقد بجسده الطاهر..
لكن العجيب أن يعزم رسول الله المصاب في عمه_لولا المانع الذي ذكره_ على تركه في العراء ليكون مائدة للوحوش الضارية والجوارح الكاسرة،وهو أحب الناس إلى قلبه!!
لم أراد رسول الله هذا المراد؟ أليس غريباً ؟! كيف يدعه جزر السباع ونهب الجوارح؟!
لقد تطلع رسول الله المحب إلى ما هو أعظم لعمه عند الله تعالى،أراد أن يعظم أجره حين يتفرق أجزاء في البطون والحواصل ليبعث يوم القيامة من كل بقعة من بقاع الأرض..فكأنه عندما يتمزق هذا التمزق،يؤجر بقدر أجزائه المتباعدة المتفرقة.!
إن الجسد بعد مغادرة الروح له ليس لها من قيمة إلا إنسانيته،إنما السر كل السر في الروح التي تنطلق مشتاقة لبارئها إن كانت مؤمنة صالحة..
وكأن رسول الله يطيب أفئدة المصابين في أحبابهم الذين قُطعوا ومُزقوا ألا تحزنوا..فالأرواح في عليائها فليمثل المجرمون في أجسادهم ما شاؤوا...
لقد رحلوا بالإيمان والحب ولن تستطيع أيدي المجرمين النيل من هذه المعاني وإن بضّعوا الجسد بُضعاً..وهذا خبيب يعذب ويقطع فيشدوا قائلاً:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً.....على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ.....يبارك على أوصال شلو ممزّع
وهذه المعاني الرائعة نطقت بها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها حين حوصر ولدها عبد الله بن الزبير وخشي الصلب والتنكيل فقالت له:وهل يضر السلخُ الشاة بعد ذبحها؟!...وقال لها عبدالله بن عمر:هذه الأجساد..لكن الأرواح عند الله فاصبري واحتسبي.
ولابن الأنباري قصيدة رثاء في مصلوب تمنى الصالب أن يكون محله..!! يقول:
علو في الحياة وفي الممات .....لحق أنت إحدى المعجزات
كأنّ الناس حولك حين قاموا.....وفود نداك أيام الصلات
كأنك قائم فيهم خطيباً .....وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء.....كمدهما إليهم بالهبات
أصاروا الجو قبرك واستنابوا.....عن الأكفان ثوب السافيات
لعظمك في النفوس تبيت تُرعى...بحراب وحفاظ ثقات
وتشعل عندك النيران ليلاً.......كذلك كنت أيام الصلات
أسأت إلى النوائب فاستثارت....فأنت قتيل ثأر النائبات!!
لكن البدن صنعة الله تعالى وهو مكرم عنده (ولقد كرمنا بني آدم) مهما كانت العقيدة التي يحملها،لذلك جاء في الحديث مرفوعاً:"كسر عظم الميت ككسره حياً"رواه أحمد
و لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جنازة قام لها !! أي تكريماً وتعظيماً.رواه أحمد.
وهذا التكريم للإنسان حياً وميتاً تشترك فيه كل الشرائع و القوانين،لكن الوحوش البشرية من كتائب الأسد الطاغية لايرعون إلّاً ولا ذمة فقتلوا وشوّهوا ومثلوا وحرقوا وداسوا على الأجساد بحوافرهم وآلياتهم الثقيلة بما لا يخطر على قلب بشر من قبل ومن بعد..!!بل منعوا من مواراتهم الثرى،ومن سعى لدفن شهيد وقع شهيداً..!! حتى الأطفال والرضع بعد ذبحهم كالنعاج لم تسلم أبدانهم الغضة من مخالبهم الإجرامية..!! ومن ينسى منا الطفل حمزة الخطيب وغيره من أطفال الثورة؟!
ومن المشاهد والصور المحزنة التي فيها سلواء للمحزونين:
ما وقع لحبيب بن زيد الأنصاري الذي أرسله رسول الله برسالة لمسيلمة الكذاب فلما مثل بين يدي الكذاب أمر بتقييده وأخذ يسأله فقال:أتشهد أني رسول الله؟! قال حبيب:إني أصم لا أسمع!! فغضب المجرم الكذاب وأشار لجلاده فضربه بالسيف فقطع يده فتدحرجت على الأرض..ثم سأله أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال:أشهد!! فاستشاط مسيلمة غضباً وأشار للجلاد فضربه فقطع يده الثانية فسقطت على الأرض وتدحرجت إلى جانب أختها..وما زال مسيلمة يسأل وحبيب يجيب والجلاد يقطع حتى أصبح حبيب قطعة تتكلم وقطعاً متناثرة على الأرض..!!ثم رحلت الروح العطشى لبارئها سبحانه وتعالى..
وانتهى الخبر الحزين إلى أمه نسيبة المازنية أم عمارة،فماذا قالت؟ لقد صبرت وتصبرت وصابرت فقالت:لمثل هذا أعددته وعند الله أحتسبته لقد بايع رسول الله صغيراً ووفّى له كبيراً.....!!!
وهذا عبد الله بن جحش يدعو الله على مشارف أحد بأن يكرمه بالشهادة في سبيله،لكن يريدها شهادة خاصة لم يطلبها أحد من قبله..!!
إنه طلب من ربه سبحانه أن يُقتل و أن يُمثل به فيُجدع أنفه ويبقر بطنه حتى يُبعث يوم القيامة فيقول الله له:لم فُعل بك ذلك؟ فيقول:فيك يارب!!!
فاستجيبت دعوته الصادقة فسمي (المجدع في الله)!!
وقد جمع رسول الله بين المجدع في الله وخاله حمزة في قبر واحد في أحد،وهكذا التقى مجدع في الله ومبقور البطن في الله وحظي بجسديهما سفح ذلكم الجبل المحب!
وهذا أنس بن النضر_وكان ذا قسم مستجاب_يقول:واهاً لريح الجنة إني لأجدها دون أحد،فقاتل حتى قتل فوُجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية..فما عُرف إلا ببنانه !! رواه الترمذي.
إنها صور من التضحيات كان من ورائها تلك الألقاب:مجدع،مبقور،مبضع...أما في ثورة سورية،فما أكثر هذه الصور والمشاهد! فكم من مجدع!وكم من مبقور! وكم من مبضّع! كانوا من قبل آحاداً لكنهم اليوم مئات وربما صاروا آلافاً..
و لئن كانوا من قبل قطعاً في الله،إنهم اليوم متناثرون في الله..فما تفعله آلة القتل الإجرامية يُحيل الأجساد إلى ذرات..ربما لا يحتضنها قبر لكن نجوم السماء تود معانقتها وتقبيلها،لأن كل واحدة من هذه الذرات غدت لساناً ناطقاً يُرجّع بلا إله إلا الله...
ولكن...
وكيف تنام العين ملء جفونها........على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام صرعى مقيلهم.....ظهور المذاكي أوبطون القشاعم
وكم من دماء قد أُبيحت ومن دُمى....توارت حياء حسنها بالمعاصم
ومن يتخلى عن نصرة إخوانه وهو قادر سيندم لا محالة:
وتلك حروب من يغب عن غمارها....ليسلم يقرع بعدها سن نادم!
غير أنهم رضوا بالعار والذل:
أترضى صناديد الأعارب بالأذى....وترضى على ذل كماة الأعاجم
ولكن ألا غيرة للحرائر:
فليتهمُ إذ لم يذودوا حمية......على الدين ضنوا غيرة للمحارم
بيد أنهم خاسرون في الدنيا والآخرة ولم يستحقوا الكرامة لأنهم ليسوا أهلاً لها:
وإن زهدوا في الأجر إذ حمي الوغى......فهلا أتوه رغبة في المغانم
هم الخاسرون هم الخاسرون...وجند الله هم المنتصرون(وإن جندنا لهم الغالبون)
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول