
ثالثًا
(لا إله إلا الله)
(4/6)
(20)
أشهد ألّا إله إلّا الله...
عن ابن عباس:
أنَّ ضِمادًا قدمَ مكةَ، وكان من أَزْدِ شَنوءَة، وكان يَرقي من هذه الريح، فسمعَ سفهاءَ من أهلِ مكةَ يقولون: إنَّ محمَّدًا مجنونٌ، فقال: لو أني رأيتُ هذا الرجلَ لعلَّ اللهَ يَشفيهِ على يدي.
قال: فلقِيَهُ فقال: يا محمَّدُ، إني أَرقِي من هذه الريح، وإنَّ اللهَ يَشفي على يديَّ مَن شاء، فهل لك؟
فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إنَّ الحمدَ لله، نَحمَدُهُ ونَستعينُه، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُه. أمَّا بعدُ".
قال: فقال: أَعِدْ عليَّ كلماتِكَ هؤلاء.
فأعادَهنَّ عليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثلاثَ مرات.
قال: فقال: لقد سمعتُ قولَ الكهنةِ وقولَ السَّحرةِ وقولَ الشُّعراء، فما سمعتُ مثلَ كلماتِكَ هؤلاء، ولقد بلغْنَ ناعوسَ البحر.
قال: فقال: هاتِ يدَكَ أُبايِعْكَ على الإسلام.
قال: فبايَعه، فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "وعلى قومِك".
قال: وعلى قومي...
صحيح مسلم (868). وللحديثِ بقيَّة.
ضِماد: هو ابنُ ثعلبةَ الأزدي.
والمرادُ بالريحِ هنا: الجنون.
وناعوسُ البحر: المشهورُ قاموسُ البحر، وهو قعرهُ أو لجَّته( ).
(21)
تنبيه..
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "مَنْ حلفَ منكم فقالَ في حلفهِ: باللّاتِ والعُزَّى، فليقل: لا إله إلا الله. ومَنْ قالَ لصاحبهِ: تعالَ أقامِرْك، فليتصدَّقْ".
صحيح البخاري (5942) واللفظُ له، صحيح مسلم (1647).
قال الخطّابي: اليمينُ إنما تكونُ بالمعبودِ المعظَّم، فإذا حلفَ باللاتِ ونحوها فقد ضاهَى الكفارَ، فأُمِرَ أن يتداركَ بكلمةِ التوحيد.
وقالَ ابنُ العربي: من حلفَ بها جادًّا فهو كافر، ومن قالها جاهلًا أو ذاهلًا يقولُ: لا إله إلا الله، يكفِّرُ الله عنه، ويردُّ قلبَهُ عن السهوِ إلى الذكر، ولسانَهُ إلى الحقّ، ويَنفي عنه ما جرَى به من اللغو.
ومَنْ قالَ لصاحبهِ: تعالَ أقامِرْكَ فليتصدَّقْ: قالَ العلماء: أُمِرَ بالصدقةِ تكفيرًا لخطيئته في كلامهِ بهذه المعصية.
ويتصدَّقُ بما تيسَّرَ مما يُطلَقُ عليه اسمُ الصدقة( ).
(22)
معجزة نبوية كريمة
عن أبي هريرةَ قال:
كنّا مع النبيِّ في مسير، قال: فنَفِدَتْ أزوادُ القوم، قال: حتى همَّ بنحرِ بعضِ حمائلهم، قال: فقال عمر: يا رسولَ الله، لو جمعتَ ما بقيَ من أزوادِ القوم، فدعوتَ اللهَ عليها.
قال: ففعل، قال: فجاءَ ذو البُرِّ ببُرِّه، وذو التمرِ بتمره، قال: "وقال: مجاهد: وذو النَّواةِ بنَواه".
قلت: وما كانوا يصنعون بالنوَى؟
قال: كانوا يَمصُّونَهُ ويشربون عليه الماء.
قال: فدعا عليها، حتى ملأَ القومُ أزودتهم.
قال: فقالَ عندَ ذلك: " أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وأني رسولُ الله. لا يلقَى اللهَ بهما عبدٌ غيرَ شاكٍّ فيهما، إلا دخلَ الجنة".
صحيح البخاري (2352)، صحيح مسلم (27) واللفظُ للأخير.
الحمائل: جمعُ حَمولة، وهي الإبلُ التي تَحمِل.
قوله: "حتى ملأ القومُ أزودَتهم": قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: الأزودةُ جمعُ زاد، وهي لا تُملأ، إنما تُملأُ بها أوعيتُها. قال: ووجههُ عندي أن يكونَ المراد: حتى ملأ القومُ أوعيةَ أزودتهم، فحُذِفَ المضاف، وأُقيمَ المضافُ إليه مقامه.
قال القاضي عياض: ويحتملُ أنه سمَّى الأوعيةَ أزوادًا باسمِ ما فيها، كما في نظائره. والله أعلم.
وفي هذا الذي همَّ به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، بيانٌ لمراعاةِ المصالح، وتقديمُ الأهمِّ فالأهمّ، وارتكابُ أخفِّ الضررين لدفعِ أضرِّهما. والله أعلم.
قوله: "فقال عمرُ رضيَ الله عنه: يا رسولَ الله، لو جمعتَ ما بقيَ مِن أزوادِ القوم": هذا فيه بيانُ جوازِ عرضِ المفضولِ على الفاضلِ ما يراهُ مصلحةً ليَنظرَ الفاضلُ فيه، فإنْ ظهرتْ له مصلحةٌ فعله.
وفي الحديثِ علَمٌ من أعلامِ النبوَّةِ الظاهرة. وما أكثرَ نظائره، التي يزيدُ مجموعها على شرطِ التواتر، ويَحصلُ العلمُ القطعيّ. وقد جمعها العلماء، وصنَّفوا فيها كتبًا مشهورة. والله أعلم( ).
(23)
الإخلاص في كلمة الإخلاص
عن أبي هريرة رضيَ الله عنه قال:
قالَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "ما قالَ عبدٌ لا إله إلا الله قطُّ مخلصًا، إلا فُتحتْ له أبوابُ السماءِ حتى تُفضِيَ إلى العرش، ما اجتَنبَ الكبائر".
سنن الترمذي (3590) وقال: حديثٌ حسنٌ غريب، وحسَّنه في صحيح الجامع الصغير (5648).
مخلصًا: أي من غيرِ رياءٍ وسمعة، ومؤمنًا غيرَ منافق.
تُفضي: تصل.
قالَ الطيبي: المرادُ من ذلك سرعةُ القبول، واجتنابُ الكبائرِ شرطٌ للسرعة، لا لأجلِ الثوابِ والقبول.
قالَ القاري: أو لأجلِ كمالِ الثوابِ وأعلَى مراتبِ القبول؛ لأن السيئةَ لا تُحبِطُ الحسنة، بل الحسنةُ تُذهِبُ السيئة( ).
(24)
رغم أنف أبي ذر
عن أبي ذرٍّ رضيَ الله عنه قال:
أتيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ وعليه ثوبٌ أبيضُ وهو نائمٌ، ثم أتيتهُ وقد استيقظَ، فقال: "ما مِن عبدٍ قالَ لا إلهَ إلا اللهُ، ثم ماتَ على ذلك، إلّا دخلَ الجنة".
قلتُ: وإنْ زنَى وإنْ سَرق؟
قال: "وإنْ زنَى وإنْ سَرق".
قلتُ: وإنْ زنَى وإنْ سرَق؟
قال: "وإنْ زنَى وإنْ سرَق".
قلتُ: وإنْ زنَى وإنْ سرَق؟
قال: "وإنْ زنَى وإنْ سرَق، على رَغْمِ أنفِ أبي ذرٍّ".
وكان أبو ذرٍّ إذا حدَّثَ بهذا قال: وإنْ رَغِمَ أنفُ أبي ذرٍّ.
صحيح البخاري (5489) واللفظُ له، صحيح مسلم (94).
قالَ الإمامُ البخاريُّ بعد الحديث: هذا عند الموت، أو قبله، إذا تابَ وندمَ وقال: لا إله إلا الله، غُفِرَ له.
وقالَ الحافظُ ابنُ حجر: يحتملُ أن يكونَ المرادُ بقوله: "دخلَ الجنة " أي: صارَ إليها، إمّا ابتداءً من أولِ الحال، وإمّا بعد أن يقعَ ما يقعُ من العذاب. نسألُ الله العفوَ والعافية.
وفي الحديثِ أن أصحابَ الكبائرِ لا يخلَّدون في النار، وأن الكبائرَ لا تَسلبُ اسمَ الإيمان، وأن غيرَ الموحِّدين لا يدخلون الجنة( ).
(25)
تصديقُ الربِّ العبدَ
عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا:
قالَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إذا قالَ العبدُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ واللهُ أكبَرُ، صدَّقَهُ ربُّه، قال: صدَقَ عبدي، لا إلهَ إلَّا أنا وأنا أكبَرُ.
وإذا قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه، صدَّقَهُ ربُّه، قال: صدَقَ عبدي، لا إلهَ إلَّا أنا وحدي.
وإذا قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ لا شريكَ له، صدَّقَهُ ربُّه، قال: صدَقَ عبدي، لا إلهَ إلَّا أنا لا شريكَ لي.
وإذا قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ له الـمُلْكُ، صدَّقَهُ ربُّه، قال: صدَقَ عبدي، لا إلهَ إلَّا أنا ليَ المـُلْكُ وليَ الحمدُ.
وإذا قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ لا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ، صدَّقَهُ ربُّهُ وقال: صدَقَ عبدي، لا إلهَ إلَّا أنا ولا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلَّا بي".
صحيح ابن حبان (851) وصحح الشيخ شعيب إسناده، المستدرك على الصحيحين (8) وقال: حديثٌ صحيح لم يخرَّجْ في الصحيحين، سنن ابن ماجه (3794) وصححه في صحيح سننه، مسند أبي يعلى (1258) وصحح الشيخ حسين أسد إسناده.
صدَّقَهُ ربُّه: أي قرَّرَهُ، بأنْ قال: لا إلهَ إلَّا أنا وأنا أكبَرُ. وهذا أبلَغُ من أن يقول: صدَقتَ( ).
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول