أحببت أن أواسيهم في بردهم


عبد العظيم عرنوس
 
بعد مكر كبَّار أسقط أعداء هذا الدين الخلافة الإسلامية الجامعة لأبناء الأمة ، وفي غفلة من أهل الحق تسلل اللص إلى بلاد المسلمين فجعلها قطعا متناثرة متنافرة متناحرة ، وحد الحدود بين البلدان ، وغرس في النفوس الاهتمام بالدولة القطرية فقط ، بحيث لا تهتم كل دولة بشؤون دولة أخرى لأن هذا يعني بزعمهم تدخلا سافرا بشؤون هذه الدولة لا تبيحه الأعراف الدولية ، ومهما أصاب إخوة الدين والإيمان من عدوان وقتل وتشريد وتدمير فلا يباح رده، لأن هذا التدخل يضر بالأمن القومي زعموا !! وبهذا المفهوم سقط التناصر والتعاضد والتواد والتراحم بين الدول الإسلامية الذي هو من أوجب الواجبات .. وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر .
 
وما كان لهذه الفكرة الخبيثة أن تجد لها موضعا في النفوس لولا تبلد الضمير وضعف الإيمان وفقدان الشعور بالألم وانعدام الإحساس بالفرح الروحي الذي يستشعره المرء وهو يقدم لأبناء جنسه أفضل ما عنده ؛ كما قال سيد قطب رحمه الله في أفراح الروح : بالتجربة عرفت أنه لا شيء في هذه الحياة يعدل ذلك الفرح الروحي الشفيف الذي نجده عندما نستطيع أن نُدخِلَ العزاء أو الرضى ، الثقة أو الأمل أو الفرح ، إلى نفوس الآخرين !
 
رهافة حس ، وشفافية روح فرحة لا تعادلها أفراح الدنيا ، لا يجد طعمها إلا من ذاق لا بلسانه؛ بل بقلبه المفعم عندما يلقم اللقمة لجائع في يوم ذي مسغبة ، وهكذا بلغنا نبأ الوزير علي بن الفرات أنه : كان يلتذ بقضاء حوائج الرعية . بل إن أبا سليمان الداراني حلَّقعلواًلمقام الشِعرى كما يعبر بمذاقه الفريد : إني لألقم اللقمة أخا من إخواني فأجد طعمها في حلقي
 
وإن العبد ليستوجب المغفرة من ربه بإطعامه الأكباد الجائعة ويقتحم العقبة الكؤود بإشباع الجيعان فقد روى الحاكم عن طلحة بن عمرو سئل عن قول الله عز وجل : { أوإطعام في يوم ذي مسغبة } فقال حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان– الجائع –
 
قال الحاكم والذهبي والسيوطي : صحيح
من يشتري الدار بالفردوس يعمرها ... بركعة في ظلام الليل يخفيها
أو سد جوعة مسكين بشبعته ... في يوم مسغبة عم الغلا فيها
 
إن مفهوم الاهتمام بأبناء القطر دون الأقطار الأخرى مفهوم دخيل على المعدة الإسلامية لا يمكن هضمه ،فالمسلمون على تباعد بلدانهم واختلاف أعراقهم وتنوع لغاتهم أمة واحدة من دون الأمم ، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبين ذلك بوضوح وهو في مدينة رسوله ويقول : والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال .. وأين صنعاء من المدينة !! ويقول عمر كذلك وهو في مدينته وهو يستشعر حاجة أرامل العراق : والله لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى أحد بعدي أبدا .. وأين العراق من المدينة .. إنه بإحساسه بالمسؤولية عن كل فرد في الأمة على تباعد ديارهم وتنائي أقطارهم يعبر عن الفهم الإسلامي الأصيل الذي ورثه من بعده الخليجفة الراشد الخامس كما روى أبو نعيم في الحلية - كتبت الحجبة إلى عمر بن عبد العزيز ، يأمر للبيت بكسوة كما يفعل من كان قبله ، فكتب إليهم : إني رأيت أن أجعل ذلك في أكباد جائعة ، فإنهم أولى بذلك من البيت ... وتمضي عجلة الزمن وهي تمر بنا بالزاهد الثقة بمثل حي تقع عين الناظر عليه لتقتدي به فقد ذكر ابن القيم في الفوائد : دخلوا على بشر الحافي في يوم شديد البرد وقد تجرد وهو ينتفض . فقالوا : ما هذا يا أبا نصر ؟! فقال : ذكرت الفقراء وبردهم وليس لي ما أواسيهم به ، فأحببت أن أواسيهم في بردهم !!!
 
أين الرعاة المسلمون الذين يراعون أبناء أمتهم وهم يرونهم مشردين في العراء داخل الوطن السوري وخارجه وقد دخل الشتاء بكلكله الثقيل .. بزمهريره وثلوجه وبرودته الشديدة وريحه الصرر العاتية .. نساء وأطفال وشيوخ هائمون على وجوههم يفترسهم الجوع ويقرصهم البرد وتغزوهم لأواء المرض ، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا .. ألا إنها مسؤولية كبيرة يحمل الزعماء قبل غيرهم ثقلها .
 
ألا هل من مواسي ومؤازر ومناصر، أليس هناك من عمر جديد أو بشر الحافي يتجرد وينتفض من البرد أو أبي سليمان الدارانييتذوق طعم لقمة يلقمها إخوته السوريين .. أليس هناك من يقتحم العقبة .. فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة ..
 
والحق أقول لكم : إن أهل سوريا قد قدموا الثمن كاملا .. وبقي دور الأمة ، أمة التواصي بالمرحمة ، فهل من مدكر
 
وكأن القرضاوي في قصدية قديمة يعني السوريين ومؤازريهم بقوله :
 
أعطوا ضريبتهم للدين من دمهم ... والناس تزعم نصر الدين مجانا
عاشوا على الحب أفواها وأفئدة ... باتوا على البؤس والنعماء إخوانا
الله يعرفهم أنصار دعوته ... والناس تعرفهم للخير أعوانا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين