
-6-
[تدريب أفراد الأمة في وقت مُبكِّر على الواجبات والالتزامات]
6 – لقد كان القرآنُ الكريم يتعهَّد الجيلَ الأول من الصحابة الكرام بالتربية والإعداد، وكانت آياتُ القرآن الكريم تُمثِّل الخطواتِ التي يجب أن يسير عليها منهجُ التربية لهذه الأمَّة في نشأتها الأولى، وفي كل مرة تحاول فيها أن تُعيد إلى البشرية الصورة الكاملة الواضحة لمنهج الله تعالى للبشريَّة.
ولقد كان العهد المكي يُمثِّل طوراً سلمياً من أطوار الدعوة، وكانت تعليمات النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته لأصحابه الكرام تأمرهم بالكفِّ والصفح والهجر الجميل.
وإنَّ مما يُلفت النظر حقاً أن تحتوي سورة المزمِّل، وهي من أوائل ما نزل من القرآن الكريم عبارةً صريحة عن القتال، وذلك قوله تعالى: [عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ...] {المزمل:20}.
فمثل هذه الإشارة الصريحة إلى القتال في عهد مُبَكِّر من الدعوة يشير بوضوح إلى أنَّ من منهج القرآن الكريم في تربية هذه الأمَّة وإعدادها أن لا تواجه بأيِّ نوع من الالتزامات والواجبات قبل أن تهيَّأَ على المستوى النفسي والشعوري لتحمُّل تَبِعات هذا الواجب، وإنَّ من الخطأ الفادح و فْقاً لمنهج القرآن الكريم في التربية أن نُقْحِمَ الفردَ في إطار أو ظرف قبل أن يتلقَّى الزاد الكافي شُعورياً وفكرياً وحِسِّياً بحيث يكون أهلاً لخوضِ التجربة بنجاح.
ومثل هذه الأمور والإشارات في القرآن الكريم كثير، ففي سورة القمر – وهي من أوائل ما نزل في القرآن أو أواسط ما نزل بمكة – يقول الله تعالى: [سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ] {القمر:45} وحين نزلت قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر ورأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَثِبُ في الدرع ويقول: [سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ] {القمر:45} عَلِمَ تأويلَها أو عَلِمَ وقتَ وقوعها، كما يقول المفسِّرون!.
وفي سورة الشورى التي نزلت بمكة بعد ذلك يصف الله سبحانه وتعالى: [الَّذِينَ آَمَنُوا] بقوله: [وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ] {الشُّورى:39} فتجمع هذه الآيات في وصفهم بين ما هم قَائمون عليه مُتحقِّقون به في مكة، وبين ما سيواجه (جماعتهم) في المستقبل من تكاليف وأعباء، وبحسبنا هنا قوله تعالى في صفتهم: [وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ] {الشُّورى:39} ليعلموا أنَّ اختيار أسلوب المُسالمة والصبر في العهد المكي كانت له أسبابه الخاصَّة الموقوتة، وأنَّه أمرٌ عَارض وليس صفةً أساسيَّة في الجماعة المسلمة، ولكن عليهم من الآن، وقبل أن يُكلَّفوا بأعباء الجهاد أن يعلموا أنَّ الجماعة التي أُعِدَّت لتكون خيرَ أمَّة أخرجت للناس، من صفاتها الأساسية: الانتصار من البغي، وعدم الخضوع للظلم، وأنَّ عليها أن تَدفع العدوان: [وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...] {المنافقون:8}.
هذه المواقف وأمثالها تُذكِّرنا بأنَّ من طَبيعة المنهج القرآني في إعداد هذه الأمَّة أن تُهيَّأ بصورة مُبكِّرة في مَشَاعرِها وأحاسيسها وأفكارها وتدريبها لما يفرضه عليها المستقبل من احتمالات، أو لما يجب عليها أن تفرضه عليه من مواقف!.
ومن هذه القاعدة التربوية القرآنية ذاتها كان توجيه النبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم في قوله: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ»، قَالَ ابْنُ سَهْمٍ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: فَنُرَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! [أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة]؛ لأنَّ حديث النفس ليس أحلاماً أو خَواطر تسبح في الفراغ! ولكنه تَحَرُّقٌ وتَشَوُّقٌ وإعداد يصوغُ حياة المرء في أصغر شؤونها وأخطرها على حدٍّ سواء.
ولعل هذا هو ما يذكرنا به الإمام الشهيد رحمه الله في وصيته المشهورة: (لا تمزح؛ فإنَّ الأمَّة المُجاهدة لا تَعْرف إلا الجد!).
-7-
[تعامل الإسلام مع المشاعر الإنسانية عندما تكون عقبة]
7 – بل إنَّ الجهاد والغزو يذكِّرنا بأمر تربويٍّ آخر أبعدُ أثراً وأعمقُ دلالة وهو أنَّ هذا الإعداد النفسيَّ المسبق بقي في الجماعة المسلمة مُستمراً لم ينقطع حتى حين فرض عليهم القتال وأصبحوا على أبواب المعركة! هذا هو قول الله تبارك وتعالى يخاطبهم: [كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] {البقرة:216} نعم، إن الله تعالى يقول: [وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] لا ليثبطهم عن القتال وقد أمرهم به! ولكن ليربِّيَ فيهم مشاعرهم الإنسانيَّة تجاه التكاليف والتَّبعات حين تكون هذه المشاعر عقبة أمام تلك التكاليف!.
ومهما فكَّر الإنسانُ فلن يعثرَ على مِثْل هذه الصَّراحة في مُواجهة المشاعر الإنسانيَّة! حتى في مثل تلك الحالة التي تكون فيها هذه المشاعر عقبة في سبيل تنفيذ الأوامر والتكاليف والتَّبِعات!.
إنَّ المناهج الأرضيَّة في التربية تحاول أن تَتَحايل لتستُر هذا الشعور ظناً منها أن تذكير الناس به قد يُقَلِّل حماستهم ويذكرهم، بمشاعرهم الفطرية العميقة، فَيَجْبُنون عن اقتحام الأهوال، ولكن التربية القرآنيَّة لا تتحايل على مشاعر الناس، بل تضعهم بوضوح أمام مشاعر قد تلمُّ بهم أو تَنْتَابهم وهم يَخوضون غَمرات القتال؛ لتربطهم منذ البداية بمشاعر التوكل والتسليم التي تنفي عنهم التأثير السلبي لمشاعر الناس ... هذه المشاعر التي تتخوَّف القتال وتتحاشاه: [وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {البقرة:216}.
الحلقة السابقة هنا
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول