يوم في حياة الشيخ محمد علي مشعل رحمه الله

كانت كل أيام الأسبوع عند الشيخ أيام دعوة ، و بذل وعطاء ، وذكر ، وعبادة ، وعمل مثمر .

فالداعية لا يسوغ له أن يمنح نفسه إجازة من العمل للدعوة ، ومن سنة الله تعالى ، أن هذا الدين لا يتحقق في واقع البشرية إلا بالجهد والجهاد البشري ، وذلك يجعلنا نسعى دائبين لتحقيق هذه السنة الربانية .

سأحدثكم عن يوم واحد من حياة الداعية الشيخ كمثال : الشيخ كان يداوم في جدة أربعة أيام : السبت و الأحد والإثنين والثلاثاء ، ويسافر عصر الثلاثاء إلى المدينة المنورة ، ثم يعود مساء الجمعة ليلة السبت إلى جدة ، ليباشر دوامه في شركة دلة صباح السبت .

يصل إلى جدة قادماً من المدينة بالسيارة ليلة السبت غالباً في الساعة الحادية عشر أو الثانية عشرة مساءً ، بعد أن أمضى قرابة أربع أو خمس ساعات في الطريق ، يأتي متعباً ، يمضي هذا الوقت الطويل في دعوة المسافرين معه إلى الخير ، وترك المنكرات من سيجارة وغناء ويعلمهم الأذكار، و يرددونها معه ، و يبذل جهده ليحفظهم إياها ، و يقص عليهم قصص الصالحين .

وحدثني عن توبة الكثير من سائقي سيارات الأجرة ، عن الدخان وسماع الأغاني ، وكثير منهم من كان يوصله إلى بيته في جدة رغبة في صحبته وتعبيراً عن حبه وإعجابه بحديثه .

يدخل علينا البيت كعادته مبتسمًا مسلّمًا ، ولا يشعرنا بتعبه وإرهاقه من السفر .

يذهب إلى غرفة نومه فيستيقظ لوحده قبل أن يرن المنبه في الساعة الثالثة تقريباً ليصلي التهجد :لمدة ساعة أو ساعة ونصف " "ولا أذكر أنه تركه أبدا " ثم يوقظني لنصلي الفجر جماعة ثم يكمل ورده من الأذكار والتسبيحات "يعتبرها فرضا "، ويتلو ورده اليومي من القرآن الكريم من مصحفه الصغير "مراجعة وحفظ " (حفظ القرآن في أقل من ستة أشهر في السجن) .

ثم ينام ساعة و يستيقظ في السابعة صباحاً فيتوضأ ، ويصلي سنة الوضوء والضحى ، ثم يجلس للقراءة والبحث والكتابة ، حتى يأتي سائق الشركة "هارون " ليأخذه إلى العمل في الثامنة والنصف ، وغالباً الشيخ يكون أمام باب المنزل ينتظره .

( والأخ السائق هارون من باكستان ، جاء إلى الشركة لا يعرف اللغة العربية ، فعلمه العربية ودرسه القرآن الكريم بتجويد وحفظه أكثر من ثلاثة أجزاء ، والأذكارالمهمه كلها ،كل ذلك في الطريق من منزله إلى برج دله ). 

يصل إلى العمل في التاسعة صباحاً ،ذا الوجه المحمدي المنور ، باسما ، طلق المحيا ، بلباسه الأنيق ::العمامة البيضاء ، وأحياناً الغترة البيضاء " متعطراً ، وبمشيته العمرية ، مشية الواثق بالله المتوكل عليه ، يسلم بصوت مرتفع ، بنبرة رجولية ، على كل من يواجهه في الطريق والمصعد إلى أن يصل إلى مكتبه في جمعية اقرأ .

وهناك في المكتب يتناول فطوره الخفيف (سندويشة واحدة فيها بيض أو جبن مع كأس شاي ).

مكتبه صغير : (مساحته 3 x 4 متر ) كان مركز دعوة وبحث وحوار ، وتأليف و إعطاء دروس علم ، واستقبال لوفود الجمعيات الدعوية والخيرية ، من داخل المملكة وخارجها ، فيحدثهم و يوجههم ويجيب على تساؤلاتهم ويزكيهم ويتوسط لمساعدتهم .

و كان هذا المكتب مركزا لحل المشاكل الأسرية ، وإصلاح ذات البين ، ومأوى لكل محتاج إلى دعم مالي أو معنوي أو فتوى أو استشارة .

وهكذا حتى يحين وقت صلاة الظهر ، يوجد مصلى يجتمع فيه موظفو أكثر من شركة في الدور الثاني من برج دله ، يصلي إماماً بهم ، ثم يلقي عليهم الدرس اليومي ، لمدة عشر دقائق بعناوين مختلفة ومتنوعة ، ويجلس الجميع للاستماع والاستفاده والسؤال ، ثم يرجع إلى مكتبه لتكملة الأعمال و إنهائها .

عند الساعة الثالثة ظهرا ينتهي الدوام ، فيرجع إلى البيت مستمرا في برنامجه اليومي مع السائق هارون من تعليم وذكر (سبحان الله و بحمده مئة ، أستغفر الله مئة .......) و هكذا حتى يصل إلى البيت ، فيدخل كعادته مبتسما ،يسلم على أهل المنزل ، يدعو لهم ، ويسأل عن صحتهم واحوالهم ، و أخبار العائلة و الأقارب ، وأخبار المسلمين في العالم . 

فنشعر جميعا بالسعادة والفرح والسرور، والطمأنينة والراحة والأنس بدخوله ، و الجلوس معه وتناول الغداء بحضوره (هذا ليس فيه مبالغه ، وكل من جالس الشيخ يشعر به) 

يتناول طعام الغداء (وهن لقيمات يقمن صلبه) ويسأل الأهل إذا كان عندهم من طعام البارحه ، وماعاب طعاما قط ، ينام بعد صلاة العصر لمدة ساعة أو أقل ، متوضئا مداوما على أذكار النوم وعلى جنبه الأيمن ، 

يستيقظ الساعة الخامسة عصرا تقريبا ، ليحضر لدروس العلم المسائية ( يقرأ الدرس ويلخصه بخطة الجميل المميز، ثم يتم تصويره نسخة لكل حاضر في الدرس )

وفي كثير من الأحيان : كان يخصص بعد العصر لحل المشاكل الأسرية والزوجية ، و العائلية والمحاكمات التجارية للإخوة الأحباب ، وكان بعض أحبابه يحضرون بعض أولادهم عند الشيخ ليوجههم ويرشدهم ويصلح ما بينه وبين أبيه .

بعد المغرب : ينطلق الشيخ إلى درس النساء في حي الجامعة ، وفي الطريق يقرأ أذكار ركوب السيارة ، وأذكار المساء كاملة و بصوت مرتفع مع من معه في السيارة . حيث يدرس النساء عن طريق الميكروفون لمدة ساعة ونصف تقريبا ، يلقي عليهم في السيرة والفقه والآداب . وإذا كان هناك متسعا من الوقت يذهب لزيارة أخ حبيب أو مريض أو عزاء ، و لا يعطل أي درس لأي ظرف أو سبب مهما كبر . ثم يذهب إلى درس الرجال ، في شرح صحيح البخاري للسفاريني ، والفقه وتاريخ الخلفاء الراشدين ، ورياض الصالحين بالتناوب في كل سبت مجموعة من الإخوة . ينتهي درس الرجال في الساعة الحادية عشرة والنصف تقريبا ، يرجع إلى البيت وغالبا من يرجعه من الإخوة ، يكون له سؤال أو استفسار أو مشكلة فيحلها له في الطريق ، أويعده غدا في المكتب او في البيت ليكمل حلها . يدخل إلى المنزل بعد هذه الرحلة اليومية الطويلة ، وهو في غاية السرور و الفرح والحيوية ، والبسمة لا تفارق محياه . 

يدخل غرفته لينام بعد هذا المشوار المضني ، الذي لا يستطيع القيام به الشباب فكيف بشيخ قد جاوز الخامسة والسبعين أو الثمانين من عمره ، ينام على وضوء و ذكر كعادته . هذا يوم واحد في حياة الشيخ عندما تراه نظنه أسعد الناس مع انه يحمل هموما كبيرة كثيرة .

همة عاليه لا نظير لها ، تنطبق عليه هذه القاعدة الذهبية (إن هذا الدين عزيز وغال ، لا ترتقي إليه همة الضعفاء العاجزين) .

وكما قال الشيخ على علي الطنطاوي (لا يقاس علم الانسان بطول السنين ولكن بعرض الأحداث) .

رحمك الله يا جدي و أسكنك فسيح جناته ، و رفع درجتك في عليين ، آمين .

أحبك يا جدي 

حفيدك : عمار مشعل