يا لثارات محمد صلى الله عليه وسلم

الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ناصر المستضعفين، وقاصم الجبارين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين المطهَّرين، وأصحابه الأخيار الذين جاهدوا لإعلاء كلمة الدين، وقاتَلوا الطُّغاةَ والمتكبّرين، وعلى من نَهَجَ نَهْجَ نُصرةِ الحقّ إلى يوم الدين، وبعد.

فإنّ الله جلّ وعلا ذكرَ اليهودَ ـ عليهم لعائنُ الله ـ في كثيرٍ وكثيرٍ جدّاً من المواضع من كتابه العزيز، وبيّنَ لنا جرائمهم العقَديةِ في حقّهِ سبحانه وتعالى، وفي حقّ أنبيائه الكرام عليهم صلوات الله.

وإنّ من أشنعِ ما اقترفه أولئك المغضوب عليهم أنهم اتخذوا من إيذاء الأنبياء سلوكاً لا يحيدون عنه، بدأ معهم منذ عهدِ نبيهم الأولِ سيدنا موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال الله عز وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 68].

بل بلغ سفهُهم أنهم بلغت إساءتهم لموسى عليه الصلاة والسلام أن تكلموا في ما يُستحى أن يُتكلَّمَ به في حقِّ أيٍّ كان، فكيف بنبيِّهم المرسَل؟.

أخرج الشيخان عن أبي هريرة اعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراةً ينظر بعضُهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر...» [أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (278)، ومسلم في «صحيحه» برقم (770)، وأحمد في «مسنده» برقم (8173). والآدرُ: مُنتفخ الخصيتين].

ولكنّ شرّ جرائم اليهود وأشنعها في حقّ رسل الله تبارك وتعالى هو محاولاتُهم سفكَ دماءِ هؤلاء الأصفياء عند الله عزّ وجلّ، وذلك مرّاتٍ ومراتٍ نجح بعضُها وخاب البعضُ الآخَر.

بل إنهم تطاوَلوا منذ فجر تاريخهم الأسود على نبيّهم الكريم سيدنا هارونَ أخي سيدنا موسى وشريكه في الرسالة عليهما السلام، وذلك كما قصّ علينا القرآن الكريم: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 150].

بل بلغت وقاحتُهم حدَّ التفاخُرِ بما حسِبوه نجاحاً منهم في قتل أحدِ أكرم الخلق على الله: سيدِنا المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157].

 

ولأجل تكرُّر ذلك منهم واتخاذِهم لهم عادةً متّبعةً عُرفوا بها، فقد ذكر الله سبحانه هذه الخصلة القبيحة فيهم مرّاتٍ عديدةٍ في كتابه العزيز فقال: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 181-183].

وقال سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 155-157].

وقال عز من قائل: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61].

وقال تبارك اسمُه: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87].

وقل جلّ شأنُه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91].

وقال عزّ سلطانُه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 21-22].

وقال لا إله غيره: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112].

وقال أيضاً: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70].

 

قال الزمخشري في «الكشاف» في تفسير هذه الآية:

قوله: {فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} كأنه قيل: كلما جاءهم رسولٌ منهم ناصَبوه... فإن قلتَ: لِمَ جيء بأحد الفعلين ماضياً وبالآخر مضارعاً؟

قلتُ: جيء {يقتلون} على حكاية الحال الماضية؛ استفظاعاً للقتل واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها. «تفسير الكشاف» 2/274.

إنّ المتمعّنَ في الآيات الستّ الأخيرة يَجِدُ بيانَ الله تبارك وتعالى يستعمل الفعل المضارع {يقتلون} و {تقتلون} للحديث عن ومع أولئك الملاعين بشأنِ جريمتهم الكبرى، والمعلوم من اللغة أنّ الفعل المضارع «ما دلّ على معنىً في الحال أو الاستقبال» «معجم القواعد النحوية» للشيخ علي الدقر رحمه الله ص 473. دار القلم ـ دمشق. ط3: 1422/2001.

 

فمن هم الأنبياء الذين قُتلوا زمنَ نزول القرآن؟

إنه لا نبيّ في ذلك الزمان إلا خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وحبيب رب العالمين: محمد - صلى الله عليه وسلم -.

فهل حاول اليهودُ قتلَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟

الجواب عن هذا السؤال الصارخ يبدأ باستعراضٍ تاريخيٍّ يستند إلى الأخبار الواردة في كتب السنة المطهَّرَة، ودواوين السيرة المعطَّرَة لنبينا - صلى الله عليه وسلم -.

وهي تذكُرُ أكثرَ من محاولةٍ يهودية لإزهاق روحِ سيد الخلائق، سيدنا رسول الله محمدٍ عليه الصلاة والسلام.

وقد استنبط الزمخشريُّ هذه الحقيقة فقال في تفسير قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] :

فإن قلتَ: هلا قيل: وفريقاً قتلتُم قلتُ: هو على وجهين:

أن تراد الحال الماضية؛ لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب.

واعلم أنّ في احتمال الفعل المضارع لمعنى الاستقبال إشارة لطيفةٌ إلى أن اليهود مصرّون على محاولة قتل أيِّ نبيٍّ آخرَ لو بعثَ الله أنبياءَ بعد خاتم النبيين محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.

وأن يراد: وفريقاً تقتلونهم بعدُ؛ لأنكم تحومون حول قتل محمد - صلى الله عليه وسلم - لولا أني أعصمه منكم، ولذلك سحرتموه، وسممتُم له الشاة، وقال - صلى الله عليه وسلم - عند موته: ما زالت أكلة خيبر تعادني فهذا أوان قطعت أبهري» «تفسير الكشاف» 1/293-294. وسيأتي الحديث.

 

محاولة بين النضير ـ عليهم لعائن الله ـ قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة 4 هـ:

روى ابن هشام في «سيرته» :

قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري ت للجوار الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقد لهما كما حدثني يزيد بن رومان وكان بين بني النضير وبين بني عامر عقد وحلف.

فلما أتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه.

ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ـ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنب جدار من بيوتهم قاعدٌ ـ فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟

فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم فقال: أنا لذلك!

فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضوان الله عليهم علمه - صلى الله عليه وسلم - بغدرهم واستعداده لحربهم.

فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعاً إلى المدينة، فلما استلبثَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابُهُ قاموا طلبه، فلَقُوا رجلاً مُقبلاً من المدينة فسألوه عنه فقال: رأيته داخلاً المدينة!

فأقبل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهَوا إليه - صلى الله عليه وسلم - فأخبرهم الخبرَ بما كانت اليهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم. «السيرة النبوية» لابن هشام 2/164-165.

 

محاولة قتل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالسم بعد فتح خيبر سنة 7 هـ:

قال ابن هشام:

فلما اطمأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدَت له زينبُ بنت الحارث امرأةُ سلام بن مشكم شاةً مَصليّة وقد سألت: أيّ عضو من الشاة أحبُّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقيل لها: الذراع!

فأكثرت فيها من السّمّ ثم سَمّت سائرَ الشاة ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تناوَلَ الذراعَ فلاك منها مضغةً فلم يُسغها ومعه بشر بن البراء بن معرور ت قد أخذ منها كما أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلفظها، ثم قال: «إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم» فاعترفت، فقال: «ما حملك على ذلك؟»

قالت: بلغتَ من قومي ما لم يَخفَ عليك، فقلتُ: إن كان ملكاً استرحتُ منه، وإن كان نبيّاً فسيُخبَر.

قال: فتجاوز عنها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ومات بشرٌ ت من أكلته التي أكل. «السيرة النبوية» لابن هشام 2/286-287.

وهذا الخبرُ ليس في كُتُبِ السيرِ فحسبُ بل هو مَرويٌّ في أصحّ الكُتُبِ بعد كتاب الله عزّ وجلّ، وهما «صحيح البخاري» و «صحيح مسلم» رحمهما الله، وغيرهما من الكتب المعتبرة.

فعن أنسٍ ت أن امرأة يهودية أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة مسمومةٍ فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألها عن ذلك، فقالت: أردت لأقتلك. قال: «ما كان الله ليسلطك على ذاك» ـ قال: أو قال: «عليّ» ـ قال: قالوا: ألا نقتلها؟ قال: «لا».

قال: فما زلت أعرفها في لَهوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (2617)، ومسلم في «صحيحه» برقم (5705) وهذا لفظه، وأحمد في «مسنده» برقم (13285)].

قال الإمام النووي:

وقوله: ما زلت أعرفها. أي: العلامة، كأنه بقي للسمّ علامة وأثرٌ من سواد أو غيره. «صحيح مسلم بشرح النووي» 4/2234.

وقال الحافظ ابن حجر العسقلانيّ:

ومراد أنسٍ ت: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعتريه المرضُ من تلك الأكلة أحياناً، وهو موافق لقوله في حديث عائشة ك: «ما أزال أجد ألم الطعام».

ووقع في مغازي موسى بن عقبة عن الزهري مرسلاً: «ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر عِداداً حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري»، ومثله في الرواية المذكورة عند ابن سعد. «الطبقات الكبرى» لابن سعد 2/181.

والعِداد بكسر المهملة والتخفيف: ما يَعتاد.

والأبهر: عِرق في الظهر تقدم بيانه في الوفاة النبوية، ويحتمل أن يكون أنس أراد أنه يعرف ذلك في اللهوات بتغير لونها، أو بنتوء فيها، أو تحفير. قاله القرطبي. «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» للحافظ ابن حجر العسقلاني 11/415.

وأخرج أبو داود في «سننه» أنّ جابر بن عبد الله ت يحدث أن يهوديةً من أهل خيبر سَمّت شاةً مَصليةً ثم أهدتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الذراع فأكلَ منها، وأكل رهطٌ من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ارفعوا أيديكم».

وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليهودية فدعاها فقال لها: «أسممتِ هذه الشاة؟».

قالت اليهودية: من أخبرك؟ قال: «أخبرتني هذه في يدي» للذراع.

قالت: نعم. قال: «فما أردت إلى ذلك؟».

قالت: قلتُ: إن كان نبيّاً فلن يضرّه، وإن لم يكُنِ استرحنا منه.

فعفا عنها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعاقبها، وتوفي بعضُ أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة وهو مولى لبني بياضة من الأنصار. «سنن أبي داود»

عن أبي سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية نحو حديث جابر ت قال: فمات بشر بن البراء بن معرور الأنصاري ت فأرسل إلى اليهودية: «ما حَمَلكِ على الذي صنعتِ؟»...

فذكر نحوَ حديث جابر ت فأمر بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقُتلت، ولم يذكر أمر الحجامة. «سنن أبي داود»

قال الإمام البيهقي: ويُحتمل أنه لم يقتلها في الابتداء، ثم لَمّا مات بشرُ بن البراء ت أمر بقتلها. «دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة» للبيهقي 4/ 262-263.

 

لم يكن تصرف المرأة فردياً:

إن هذه المحاولة الشنيعة، والجريمة المنكرة التي أقدمت عليها اليهودية لم تكن وليدةَ نزوةِ حقدٍ فردية منها، بل نتيجةَ تدبيرٍ جماعيٍّ من جمعِ اليهود الموتورين بفتح خيبر.

فعن أبي هريرة ت قال: لما فتحت خيبر أهديت للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاة فيها سمٌّ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اجمعوا إليّ من كان ها هنا من يهود»، فجُمعوا له، فقال: «إني سائلُكم عن شيء فهل أنتم صادقيّ عنه؟».

فقالوا: نعم. قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أبوكم؟». قالوا: فلان. فقال: «كذبتُم، بل أبوكم فلان!». قالوا: صدقت.

قال: «فهل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتُ عنه؟». فقالوا نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذِبَنا كما عرفتَهُ في أبينا.

فقال لهم: «من أهل النار؟». قالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اخسَؤوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبداً».

ثم قال: «هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتُكم عنه؟». فقالوا: نعم يا أبا القاسم!

قال: «هل جعلتُم في هذه الشاة سماً؟». قالوا: نعم.

قال: «ما حَمَلَكُم على ذلك؟». قالوا: أردنا إن كنتَ كاذباً نستريح، وإن كنتَ نبيّاً لم يضرّك. أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (3169)، وأحمد في «مسنده» برقم (9827).

 

استشهاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

أجل إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استُشهِد!

أوَتظُنُّ ـ أيها المسلم ـ أنّ الله يَحرم خليلَه - صلى الله عليه وسلم - من أمنيّة تمنّاها، وشهوةٍ اشتهاها، وهو الذي كان يُسارعُ في هواه!

أجل يُسارعُ في هواه، أخرج ذلك الشيخان عن عائشة ك قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51]، قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. [أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (4788)، ومسلم في «صحيحه» برقم (3631)، وأحمد في «مسنده» برقم (25251).]

ألا وإن من أعظم أمانيّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرزقه الله الشهادة في سبيله.

أليس في «الصحيح» من حديث أبي هريرة ت أنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «والذي نفسي بيده، لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسُهم أن يتخلفوا عني ولا أجدُ ما أحملهم عليه ما تخلّفتُ عن سريّةٍ تغزو في سبيل الله! والذي نفسي بيده، لَوَدِدتُ أن أقتلَ في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل». [أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (2797)، ومسلم في «صحيحه» برقم (4859)، وأحمد في «مسنده» برقم (10523).]

أفتراه يَحول بين حبيبه المصطفى وبين هذا المرجوّ العظيم، وهو الوهّاب الكريم.

لأجل ذلك رأى كثيرٌ من السلف الصالح، وأهل العلم الأفاضل أنّ نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - مات شهيداً، والأدلة على ذلك من أقوى الأدلة، وهذا بيانُها:

فعن عائشة ك: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه الذي مات فيه: «يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم». [أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (4428) معلقاً عن يونسَ، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة ك به. وأخرجه موصولاً الحاكم في «المستدرك» برقم (4393) بإسناده إلى يونسَ به. وقال الذهبي في «التلخيص» : على شرط البخاري ومسلم. ووصله كذلكَ البيهقيُّ في «السنن الكبرى» برقم (19717)]

وعن ابن عباس م أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات من اللحم الذي كانت اليهودية سَمّتهُ، فانقطع أبهرُهُ من السّم على رأس السنة. كان يقول: «ما زلت أجد منه حسّاً». أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» برقم (11503).

قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» : رواه الطبراني وإسناده حسن. [«مجمع الزوائد» برقم (14262). قلت: فيه ابن لهيعة، والخلاف في تحسين حديثه معروف، والهيثمي يحسن حديثه. وفي الحديث إشكال تحديدُ انقطاع أبهر النبي - صلى الله عليه وسلم - على رأس السنة، وخيبر في أوائل سنة سبعٍ ـ وقيل: ستٍّ ـ ووفاته - صلى الله عليه وسلم - في الثاني عشر من ربيعٍ الأول سنة إحدى عشرة، أي: بعد قرابة أربع سنوات.]

وعن أبي سلمة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل الهدية ولا يقبل الصدقة، فأهدَت له امرأةٌ من يهود خيبر شاةً مَصليّةً، فتناول منها وتناول منها بشر بن البراء ت، ثم رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده ثم قال: «إن هذه تُخبرني أنها مسمومة».

فمات بشر بن البراء ت، فأرسل إليها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما حملكِ على ما صنعت؟»، فقالت: إن كنتَ نبيّاً لم يضرّك شيء، وإن كنت ملكاً أرحتُ الناسَ منك.

فقال في مرضه: «ما زلت من الأكلة التي أكلتُ بخيبر، فهذا أوانُ انقطاع أبهري». [أخرجه الدارمي في «مسنده» برقم (68)، قال محققه الشيخ حسين سليم أسد: إسناده حسن وهو مرسل.]

ورُوي مثلُه من حديث أبي هريرة ت مرفوعاً: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني كل عام حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري». «كنز العمال» برقم (32189) وعزاه إلى ابن السني وأبي نعيم في الطب.

وأخرج الحاكم في «المستدرك» عن أم مبشر ك قالت: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجعه الذي قبض فيه فقلتُ: بأبي أنت يا رسول الله ما تتهم بنفسك؟ فإني لا أتّهم بابني إلا الطعام الذي أكله معك بخيبر ـ وكان ابنها بشر بن البراء بن معرور مات قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأنا لا أتهم غيرها، هذا أوانُ انقطاع أبهري. أخرجه الحاكم في «المستدرك» برقم (4966) وقال: هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في «التلخيص».

وجاءَ في «سيرة ابن هشام» :

قال ابن إسحاق: وحدثني مروان بن عثمان ابن أبي سعيد بن المعلى قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال: في مرضه الذي توفي فيه ودخلت أم بشر بنت البراء بن معرور ك تعوده: «يا أم بشر، إن هذا الأوان وجدتُ فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلتُ مع أخيك بخيبر».

قال: فإن كان المسلمون لَيرونَ أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة. «السيرة النبوية» لابن هشام 2/287.

وقد جزم ابن كثير رحمه الله تعالى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات شهيداً إذ قال: فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهيداً. «البداية والنهاية» 6/330.

ثم نقل قول ابن إسحاق الذي نقله ابن هشام في «السيرة النبوية» : «وإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة». «البداية والنهاية» 6/331.

وهذا الرأيُ كما هو مأثورٌ عن ابن عباسٍ م كما سلف في حديث الطبراني، فإنه مرويٌّ بصريح العبارة عن واحدٍ من أفقه صحابة النبيِّ عليه الصلاة والسلام هو سيدنا عبد الله بن مسعود ت، فقد ورد عنه أنه قال: لأن أحلف تسعاً إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُتل قتلاً أحبُّ إليَّ من أن أحلف واحدةً إنه لم يُقتَل، وذلك أن الله عز وجل اتخذه نبيّاً واتخذه شهيداً. [أخرجه الإمام أحمد في «المسند» برقم (3873) وبرقم (4139). وأخرجه الحاكم في «مستدركه» برقم (4394)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الذهبي في «التلخيص» : على شرط البخاري ومسلم. وأخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» 2/179. وأخرجه كذلك عبد الرزاق في «المصنف» برقم (9571). والطبراني في «المعجم الكبير» برقم (10119). وزادا: قال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهيمَ فقال: كانوا يرون أن اليهودَ سموه وأبا بكرٍ.]

 

تنبيه وتوجيه:

قد يظن أحدٌ ما أن هذا يتعارضُ مع عصمة الله تعالى رسوله التي ذكرها في القرآن الكريم بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67].

 

والجوابُ ما بيّنه فقهاءُ الأمة ومفسّروها المعتبرون.

فقد قال الإمام البغوي في «تفسيره» :

فإن قيل: أليس قد شُجّ رأسُه وكُسِرَت رباعيته وأوذي بضروب من الأذى؟

قيل: معناه: يعصمك من القتل فلا يصلون إلى قتلك.

وقيل: نزلت هذه الآية بعدما شج رأسه؛ لأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن.

وقيل: والله يخصك بالعصمة من بين الناس، لأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - معصوم. «تفسير البغوي» ص 389. (د. تح) دار ابن حزم ـ بيروت. ط1: 1423/2002.

وقال ابن عطية:

وهذه العصمة التي في الآية هي من المخاوف التي يمكن أن تُوقِفَ عن شيءٍ من التبليغ؛ كالقتل والأسر والأذى في الجسم ونحوه. [«المحرر الوجيز» 2/218.]

وقال الإمام النووي:

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما كان الله ليسلطك على ذاك»، أو قال: «عليّ».

فيه بيان عصمته - صلى الله عليه وسلم - من الناس كلهم؛ كما قال الله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، وهي معجزة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سلامته من السم المهلك لغيره، وفي إعلام الله تعالى له بأنها مسمومةٌ، وكلام عضو منه له، فقد جاء في غير مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الذراع تخبرني أنها مسمومة». [«شرح النووي على صحيح مسلم» 4/2234. ورواية غير مسلم التي عناها هي ما في «سنن أبي داود» و «الدارمي» من حديث أبي سلمة مرسلاً، وقد سلفت.]

وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» :

ومن عصمة الله لرسوله حفْظُه له من أهل مكة وصناديدها وحُسّادها ومُعَانديها ومُترَفيها، مع شدة العداوة والبغْضة ونصب المحاربة له ليلاً ونهاراً، بما يخلقه الله تعالى من الأسباب العظيمة بقَدَره وحكمته العظيمة، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب؛ إذ كان رئيسًا مطاعًا كبيرًا في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدرٌ مُشترَكٌ في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيراً، ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم وهي المدينة، فلما صار إليها منعوه من الأحمر والأسود، فكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه، لما كاده اليهود بالسحر حماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواءً لذلك الداء، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر، أعلمه الله به وحماه منه؛ ولهذا أشباه كثيرة جداً يطول ذكرُها. «تفسير ابن كثير» 2/117.

وليُعلَم أن بقاءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - سنواتٍ بعد تعرّضه لمحاولة التسميم هي من معجزاته الباهرة - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّ الشأن في السّمّ أن يقتُلَ على الفور؛ كما وقع لسيدنا البراء بن معرور ت، ولكن لما كانت الأسباب لا تؤثر شيئاً بنفسِها، وأنّ الله هو الفاعل الحقيقي لِما يجري في هذا الكون؛ كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافّات: 96].

فإنه سبحانه لم يشأ للسبب أن يجريَ على سنته التي قدّرها له إلا بعد سنواتٍ؛ إظهاراً لنبيه على اليهود والمشركين، وإعلاءً لمعجزة جليلة من معجزاته، ولتكون الشهادة تاجاً يُتوّجُ بها الله عزّ وجلّ هامَ نبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أدى مهمته على أتم وأكمل وجه.

وهو ـ سبحانه ـ لم يشأ لنبيه ميتةً عاديةً؛ رفعةً لقدرِه، وعلوّاً لمنزلتِه، وسمواً لدرجتِه.

 

نتيجةٌ:

إنّ لنا معاشرَ المسلمين ثأراً يجبُ أن لا ننساه مع حفدة القردة والخنازير، شعبِ الشيطان المختار، قتلة الأنبياء والمرسلين، الذين اعتقدوا في الله تعالى شرَّ اعتقاد، وقابلوا نِعَمَه عليهم بالجحود والنكران. هم ذلك الشعب الذي كتب الله عليه الذلّ والخوف والهلع، وسلّطهم على أمتنا بُعدُ بعضِنا عن الله تعالى وعن سنة المصطفى الحبيب وشرعه القويم.

وإنّ شيئاً لا يُمكن أن يجعلنا نتحوّل عما يجبُ لهم علينا من البُغض في ذاتِ الله عزّ وجلّ، ذلك البُغض الذي هو من الإيمان؛ كما صحّ عن رسول الله عن أبي ذر ت قال خرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أتدرون أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟» قال قائل: الصلاة والزكاة! وقال قائل: الجهاد! قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحب الأعمال إلى الله عز وجل الحب في الله، والبغض في الله». أخرجه أحمد في «مسنده» برقم (21303)، وأبو داود في «سننه» برقم (4599).

وجاء نحوه من حديث البراء بن عازب ت قال: كنا جلوسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أي عرى الإسلام أوسط؟» قالوا: الصلاة! قال: حسنةٌ، وما هي بها»، قالوا: الزكاة! قال: «حسنة وما هي بها»، قالوا: صيام رمضان! قال: «حسن وما هو به»، قالوا: الحجّ! قال: «حسن وما هو به»، قالوا: الجهاد! قال - صلى الله عليه وسلم -: «حسن وما هو به» قال: إن أوسط عرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله». أخرجه أحمد في «مسنده» برقم (18524).

واليهود ـ عليهم لعائنُ الله ـ أبغضُ الخلائق إلى الله الذين سماهم في فاتحة الكتاب «المغضوب عليهم» فسّر الآية كذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عديّ بن حاتم. أخرجه أحمد في «مسنده» برقم (19381)، والترمذي في «جامعه» برقم (2953).

وجريمتُهُم الكبرى في الاعتداء على أنبياء الله الكرام، وعلى رأسهم نبيُّنا محمدٌ عليه وعليهم الصلاة والسلام، جريمةٌ لا تُغتَفَر، ولا ينبغي لمسلمٍ أن ينساها ما حيِيَ، ولا أن تبرُدَ حرارةُ آلامها في قلبه ما عاش، ولا يحسُن بمن يحمل في قلبه ذرة حبٍّ لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يخلو قلبُهُ من ذرةِ حبٍّ مع شياطين الإنس أولئكم.

ونحن ـ بوصفنا مسلمين ـ إن غضضنا الطرفَ تسامُحاً وإمهالاً لليهوديّ وغيره من غير المسلمين، ولم نُبادرْهُ إلا باللطفِ واللين؛ تحبيباً له بالإسلام، وإراءةً له أننا لا نكرهه لذاته، ولا نحقد عليه لشخصه، بل لحالٍ قبيحةٍ من الكفر تلبّسَ بها نحن نرجو له، ونحبّ له، ونتمنى له أن ينجوَ منها.

ونُبرهِنُ له ذلك، ونستدلّ له عليه بحُسن المعاملة، وإغداق البر، وإفاضة الإحسان؛ عملاً بما في كتابنا المُنزَل، وسنةِ نبيِّنا المُرسَل - صلى الله عليه وسلم -.

إلا أنّ الحُسنى لا تكونُ مع من تلبّسَ بكلِّ قبيحةٍ من الاعتقاد، واقترفَ كلّ عظيمةٍ من الجرائم، ثم زادَ على كلّ ذلك بتلطُّخ يدَيه بدماء المسلمين حاضراً، وباغتصاب أرضِهم، وانتهاك حُرماتهم، وتدنيس مقدّساتهم، وتشريد من بلادِهم.

فكيف بالله ـ يا عباد الله ـ تكون الحسنى مع أمثاله، ولا يقبُحُ البرّ مع من سار على منوالِه، والله تبارك وتعالى يقولُ لنا بصريح البيان: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9].

اللهم رُدّ المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً، وانصُرهم بذلك نصراً عزيزاً، وكن لهم على أعدائهم نصيراً، وأرنا اللهم في اليهودِ عجائبَ قُدرتِك، وبطشَ جبروتِك، يا من قلتَ في كتابك وقولك الحقّ: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8].

وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ورضي عمن تبع نهجه، واقتدى بسنته.

والحمد لله رب العالمين.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين