وقتل داوود جالوت وانتصرت غزة على المغول

 

إنها الحرب الثالثة التي تشنها المؤسسة الإسرائيلية على غزة خلال ست سنوات؛ الرصاص المصبوب في شتاء 2009/2008، وعامود السحاب في 2012، والصخرة الصلبة في 2014، وأما في المسميات الفلسطينية فإنها معركة الفرقان في 2008، ومعركة حجارة السجيل في 2012، ومعركة العصف المأكول في 2014.

ولأن صمود غزة الأسطوري أمام الجيش الإسرائيلي المصنف أنه واحد من أقوى ستة جيوش في العالم، هذا الصمود الذي أذهل وحيّر المراقبين والباحثين، هو ولا شك ستكون له انعكاساته على المنطقة بأسرها وعلى الأمة كلها، غزة المحاصرة، غزة الجائعة، غزة ذات المساحة الصغيرة جدًا، غزة المخذولة من ذوي القربى، غزة ولا شك تضع تاريخًا لانتصار الضعيف على القوي والفقير على الغني، وقليل الإمكانات على كثيرها، ولكنه انتصار صاحب العقيدة على من انحرفت عقيدته وفسدت طباعه وانتكست فطرته.

إنه التاريخ يحدثنا أن بني إسرائيل بعد مجيئهم إلى فلسطين بعد موسى عليه السلام ويوشع بن نون ونجاتهم من ظلم فرعون، فإنهم قد بقوا قريبًا من 356 سنة من غير ملكٍ عليهم، وكان من يلي شأنهم ويقودهم هم القضاة ورجال الدين، وخلال هذه الفترة كانت الصراعات مريرة بينهم وبين الفلسطينيين أصحاب الأرض المعروفين يومها باسم العمالقة، وكانت أشد المعارك إيلامًا لهم تلك التي وقعت بينهم وبين الفلسطينيين سكان أشدود وغزة حيث غلبهم الفلسطينيون وأخذوا تابوت العهد (الصندوق الذي كانت تحفظ فيه التوراة وبعض آثار موسى وهارون عليهما السلام) فعزّ عليهم ذلك لأنهم كانوا ينتصرون به، ووضع الفلسطينيون الصندوق عند آلهتهم في "بيت راحون"، وقد اختار لهم النبي صموئيل طالوتَ ليكون ملكًا عليهم. وقد عرف طالوت في التاريخ العبري باسم شاول، فاعترضوا عليه، غير أن النبي صموئيل أخبرهم أن هذا تعيين سماوي، والدليل أن الملائكة ستحمل وترجع تابوت العهد الذي سبق واستولى عليه الفلسطينيون. وخلال إحدى جولات الصراع بين بني إسرائيل يقودهم طالوت المؤمن وبين الفلسطينيين العمالقة الوثنيين يقودهم جالوت، واسمه في العهد القديم (جليات) تقع المعركة التي تحدث القرآن عنها من غير تفصيل في قول الله تعالى: (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين * ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) (251–249 من سورة البقرة).

ولأن جالوت القائد الفلسطيني كان عملاقًا مهيب المنظر مدججًا بالسلاح، يحمل بيده رُمحًا عظيمًا، فقد وقف وسط الوادي يتحدى ويطلب من يبارزه من بني إسرائيل، وكان عددهم يزيد على سبعين ألفًا لكن أحدًا منهم لم يجرؤ على مبارزته.

عندها تقدم صبي اسمه داوود ما خرج ليقاتل، ولكن والده أرسله ليطمئن على إخوته الثلاثة الذين كانوا في جيش الإسرائيليين، فطلب من طالوت الإذن وقد تحركت فيه الحمية لهذا التحدي من جالوت وأخذ معه عصاه وخمسة حجارة مُلس من حجارة الوادي ومقلاعه بيده، وبعد جدال همّ جالوت العملاق أن يعاجل داوود بضربة من رمحه العملاق، غير أن داوود كان أسرع منه فقذفه بحجر من مقلاعه على جبهته فخر العملاق على الأرض يتلوى، وفي سرعة البرق تقدم داوود واستل سيف جالوت وحز به رأسه، فذعر الفلسطينيون لما رأوا ما حل بجبارهم وقائدهم فدبت الفوضى والهلع في صفوفهم ثم ولوا هاربين بعد أن انهارت معنوياتهم بما رأوا من قتل عملاقهم.

يقول الشهيد سيد قطب في تفسير "الظلال" في معنى قول الله تعالى (وقتل داوود جالوت): (وداود كان فتى صغيرًا من بني إسرائيل، وجالوت كان ملكًا قويًا وقائدًا مخوفًا، ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها وإنما تجري بحقائقها، وحقائقها يعلمها هو سبحانه ومقاديرها بيده وحده، فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم ويفوا لله بعهدهم، ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده، وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعافٌ ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حيث يشاء الله أن يقتلهم).

وها هي جولة جديدة من جولات الصراع تتجدد بين الفلسطينيين وبين الاحتلال الإسرائيلي، بين أهل غزة وبين الاحتلال الإسرائيلي، لكن الفلسطينيين هذه المرة ليسوا وثنيين ولا عبدة آلهة وأصنام، وإنما هم مسلمون؛ ربهم الله جل جلاله وقائدهم محمد صلى الله عليه وسلم ودستورهم القرآن، الفلسطينيون في غزة وبسبب هذا الانتماء محاصرون ومجوعون، وقد أدار لهم الظهر وانقلب عليهم ذوو القربى والجيران ليدخل أهل غزة الفلسطينيين في حرب بل حروب وحدهم في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

لكن الفارق في هذه الجولات أن العملاق وصاحب التسليح الرهيب والقوة العسكرية الغاشمة ومن يملك أعتى الأسلحة وأكثرها فتكًا وتدميرًا هو الاحتلال الإسرائيلي، بينما الذي يملك الحجارة المُلس والقلاع وأبسط الأسلحة يصنعها بيديه هم الفلسطينيون من أهلنا في غزة.

إنه الجيش الإسرائيلي وقادته الذين يتحدون كل العرب وكل المسلمين وهم يقولون: من يبارز؟ فلم يخرج لهم أحد، بل إنهم خضعوا لهم وراحوا ينسقون معهم أمنيًا، وقد أصبحوا لهم عملاء ووكلاء.

ولما أن راح هذا العملاق الإسرائيلي يضرب ويبطش وينتهك الحرمات ويعتدي على المقدسات ويصول ويجول، وإذا بهذا الفتى الفلسطيني المؤمن، وإذا بداود الفلسطيني (أهل غزة والمقاومة) يخرجون لمنازلته رغم فارق الإمكانات. ولقد أخرج داوود الفلسطيني مقلاعه الذي كان أسلحة يدوية وصواريخ بسيطة صنعوها بأيديهم استجلبت الضحك والاستهزاء، حتى أن "فلسطينيًا مبهورًا ببني إسرائيل اسمه أبو مازن" قد سماها صواريخ عبثية، إنها مقلاع داوود الفلسطيني الذي سدده إلى صدر جالوت العملاق الإسرائيلي هذه المرة، وقد تحداه فأصابه في معنوياته وكبريائه ومرغ كرامته في التراب..وقتل داوودُ جالوت.

إن من يقارن أسلحة العملاق الإسرائيلي بطائراته ودباباته ومدفعيته وطائراته من دون طيار وبحريته وأقماره الصناعية ووحداته العسكرية المختارة، في مقابل أسلحة غزة؛ أسلحة الفتى الفلسطيني المؤمن، ثم من يتبين شجاعة وصمود وبطولة أهل غزة وتحديهم لهذا الاحتلال الغاشم فإنه حتمًا يتوصل إلى أن المشهد هو مشهد إيماني، وكما جعل الله سبحانه مصرع جليات الجبار الغشوم على يد داود الفتى الصغير، فإنه سيجعل مصرع الاحتلال الإسرائيلي وهزيمته المعنوية ثم العسكرية على يد هذا الفتى الغزي المؤمن. وقتل داودُ جالوتَ.

 

وانتصرت غزة على المغول

إنها معركة العصف المأكول، معركة غزة في مواجهة المغول وتتار هذا الزمان حيث القسوة والبطش والصلف والتدمير، معتمدين على جيش قوي هزم جيوش دول عربية كثيرة متفرقة ومجتمعة، حتى انطبع في أذهان الكثيرين أنه الجيش الذي لا يقهر ولا يُهزم، جيش استطاع أن يهزم جيوش مصر وسوريا والأردن ومن ساندهم خلال ستة أيام، واحتل الجولان وسيناء والضفة الغربية والقدس الشريف، فرفعوا الرايات البيضاء، وإذا بغزة المكلومة المحاصرة المجوعة تقف في مواجهة هذا الجيش أيامًا وأسابيع دون أن ترفع راية بيضاء وإنما هي نظرية العين بالعين والسن بالسن (وإن عدتم عدنا).

ليست هي المرة الأولى في تاريخ غزة فيها تواجه جيوشًا جرارة جبارة، وإنما قدر غزة أنها وحين تصل الأمة إلى حالة من الذل والهوان والهزيمة المعنوية والنفسية والعسكرية لم تصل إليها من قبل وإذا بها تتقدم وتأخذ مكانتها في الدفاع عن الأمة كلها، وفي استرجاع شرفها المدنس، وكرامتها المنتهكة عبر انتصارات ومواقف عز وشرف تصنعها غزة لوحدها.

إن التاريخ يحدثنا عن معركة غزة التي وقعت في مثل هذا الشهر؛ شهر تموز من العام 1260 ميلادية في مواجهة زحف الجيش المغولي التتري، الذي سبق وألحق هزيمة نكراء بالأمة كلها قبل ذلك بسنتين في 1258م حين احتل بغداد عاصمة دولة الخلافة، وقتل فيها مليونين من الناس، وراح يزحف في كل أرجاء البلاد الإسلامية يدب فيها الرعب ويعيث فسادًا، ولا يجرؤ أحد على منازلته حيث شاعت بين الأمة مقولة (إذا قيل لك إن التتار قد انهزموا فلا تصدق)، إنها الحالة المعنوية المتردية والهابطة وصلت إلى اعتقاد أن التتار جيش لا يقهر أبدًا.

وصلت طلائع الجيش المغولي إلى مشارف غزة، وهناك خرج لملاقاتهم الأمير ركن الدين بيبرس المملوك المصري الذي جاء ليساند ويقاتل مع أهل غزة، فكانت معركة حامية الوطيس انتصر فيها أهل غزة بقيادة بيبرس على طلائع المغول وكانت هزيمة قاسية لهم.

إن من يقرأ كتب التاريخ ويتمعن في نصوصها فإنه سيجد العجب العجاب من التطابق بين ظروف ونتائج معركة غزة في شهر 1260/7 وبين معركة غزة في 2014/7، يقول صاحب كتاب "قصة التتار" وصاحب كتاب "جهاد المماليك": (واستطاع ركن الدين بيبرس أن يحقق انتصارًا ساحقًا على الحامية المغولية في غزة، وكانت هزيمة قاسية لهم. واكتشف المغول أن هناك من المسلمين من يتحرك من خلال خطط عسكرية وأبعاد إستراتيجية، وأنه لا زال من المسلمين من يحمل السيوف للدفاع عن دينه وأرضه وشرفه وكرامته، وكانت هذه المعركة من أهم المعارك بالنسبة للمسلمين فقد رأى المسلمون بأعينهم أن التتار يفرون، وسقطت المقولة التي انتشرت في تلك الآونة التي تقول "من قال لك إن التتار قد انهزموا فلا تصدقه"، وكان لهذه الموقعة أثر إيجابي على جيش المسلمين وكان لها أثر سلبي على جيش التتار).

نعم! لقد كان لانتصار أهل غزة بقيادة الأمير المصري بيبرس الأثر الأكبر في حالة معنوية دبت في الأمة كلها وصل صداها إلى دمشق وحلب وغيرهما، وكانت خاضعة لأمراء وعملاء للمغول فانتفض أهالي البلاد الإسلامية على الأمراء العملاء، الذين عينهم المغول، وقتلوهم. والتقت الجيوش الإسلامية كلها خلال شهرين اثنين من بعد هزيمة التتار في غزة، التقوا جميعًا في شهر أيلول 1260م في سهل عين جالوت من أرض بيسان لتسطر هناك واحدة من أهم معارك التاريخ فيها هُزم التتار هزيمة نكراء، وكانت بداية انحسار زحفهم وانكفائهم ورجوعهم من حيث أتوا.

نعم! إنها معركة غزة التي كانت سببًا في تحريك الخير الكامن والعزيمة النائمة في الأمة لتشكل ذلك الطوفان البشري يزحف نحو عين جالوت لملاقاة المغول هناك ويهزمهم شر هزيمة.

وها هي غزة تعيد كتابة التاريخ من جديد. ففي الوقت الذي تنتقل فيه أمتنا بين النكبات والنكسات، وفي الوقت الذي لم تتذوق فيه الأمة طعم الانتصارات خلال سبعين سنة -إلا في العاشر من رمضان 1973 وكان جرعة صغيرة- وإذا بغزة وصمودها وبطولات أبنائها وفي العشار من رمضان 2014 تسطر سجلًا جديدًا من سجلات الشموخ والعزة.

إن من يسمع تصريحات القادة الإسرائيليين العسكريين والسياسيين فإنه يتبين له عظيم ذهولهم وتفاجئهم من بطولات غزة، حيث راحوا يتحدثون أن في غزة من يتحرك وفق خطط عسكرية إستراتيجية، وأن عندهم منظومات متكاملة وهيكلية عسكرية مترابطة، إنهم اكتشفوا أن ليس كل الأمة أبو مازن ولا السيسي ولا بشار، ولأنه ليس كل أبطال فلسطين هم ضباط ارتباط وتنسيق أمني مع الاحتلال.

لقد أوصل التتار الأمة إلى حالة من الذل والهلع ووصلت بهم إلى حد القول والاعتقاد أن التتار لا يهزمون أبدًا، فجاءت غزة يومها لتقول: لا وألف لا! إن التتار يهزمون ويهربون، وإن هذه الهالة ليست إلا نتاج جبن وخوف الآخرين، وإنه الجيش الإسرائيلي والمؤسسة الإسرائيلية أوصلت أمتنا في العصر الحالي إلى حالة من الذل والهلع وصلت بأمتنا إلى حد القول والاعتقاد أن الاحتلال الإسرائيلي لا يهزم أبدًا، فجاءت غزة من جديد لتقول: لا وألف لا! إن الإسرائيليين يُهزمون ويفرون ويختبئون في الملاجئ وتتعطل حركة وسير دولتهم، بل إن حكومتهم ومجلس وزرائهم وقادتهم العسكريين راحوا يجتمعون فيما يُسمى (البئر) وهو المكان المحصن تحت الأرض في مقر قيادة الأركان في تل أبيب خوفًا من الصواريخ الغزاوية.

إنها غزة العزة تقول بأعلى صوت: "الجوع ولا الركوع"، "الحصار ولا العار". إنها غزة تكتب اليوم سفرًا من أسفار المجد تخطه بدماء أبنائها ودموع أطفالها، إنها غزة تتبرع من دم أبنائها لأمة أصيبت بفقر الدم، بل إنه لا دم عند زعامتها وقادتها من أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة ممن صمتوا وانخرسوا فلا نسمع منهم حتى همسًا.

إنها غزة المجد والمكارم يصل صدى صوت العزة المنبعث منها إلى القاهرة والرياض ومراكش وتونس، وإلى أرجاء الكون كله ليبعث في الأمة روح العزة والكرامة والبطولة من جديد.

نعم! سيقتل داودُ جالوت وينتصر شبل غزة على عمالقة التسليح والبطش، وستنتصر غزة على الاحتلال الإسرائيلي، مغول القرن الحادي والعشرين بإذن الله، فبوركت يا غزة الأبية ولك منا مليون سلام وتحية.

رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالديّ بالمغفرة

(والله غالبُ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين