وقائع وأخبار فهل من مدكر؟ (6)

ما أكثر الأحداث والوقائع التي يعرفها كلّ إنسان منّا من موت الفجاءة.. الذي دهم بعض الناس على اختلاف أعمارهم وأحوالهم، فكان موتهم عبرة لمن حولهم، ولكنّها عبرة موقوتة قاصرة، ثمّ عاد الناس إلى ما كانوا عليه من لهو وغفلة..

وهذه الوقائع التي أقدّمها لك أخي القارئ ليست من بنات أفكاري، ولا من نسج الخيال، وإنّما هي ممّا أعرف أشخاصه حقّ المعرفة، أو ممّا سمعته من ثقاة الناس، وفيه العبرة والموعظة.. والسعيد من وعظ بغيره..

إنّها قصص ومشاهد واقعيّة، من حياتنا المعاصرة، أرويها لك، ولعلّك قد سمعت ببعضها، ولعلّك تعرف أكثر منها.. ولا نقصد بها شماتة بأحد أو تشهيراً، وإنّما نريد بها العظة للأحياء والاعتبار..

26 * بعد أيّام من توبته..

كان شابّاً قد أَسْرَف عَلَى نفسِه، وابتعد عن ربّه.. فلم يدع باباً من أبواب المآثم إلاّ ولجه.. ولكنّ فطرته لم تزل تحمل الكثير من الصفاء والإشراق، ساقته الأقدار إلى سعادته، أو ساقت السعادة إلى سمعه.. فاستمع إلى شريط مسجل، يفسّر فيه بعض الدعاة قول الله تعالى: { قُلْ: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ المُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ المُحْسِنِينَ (58) } الزمر.

فرقّ قلبه، وخشعت لله جوارحه، ودمعت عيناه، وأحسّ بالحياء من الله تعالى يملك عليه مشاعره، كيف يعصي الله، ويلجّ في العصيان، وكلّ نعمة يتقلّب فيها هي من فضل الله عليه وكرمه.؟! وسمع الشريط مرّة أخرى.. وكان في ختامه: " أقبل يا أخي على الكريم ولا تتردّد ! أقبل إلى أرحم الراحمين ! إلى من هو أرحم بنا من آبائنا وأمّهاتنا ! ومن الناس أجمعين ! هل أنت في غنى عن نعمه ؟ هل أنت في غنى عن رحمته ؟ إن كنت تعصيه في جراءة، وتصرّ على عصيانه، ولا تبالي بهذه النذر، فقل له بمثل جراءتك على المعاصي: " لا حاجة لي بنعمك، ولا حاجة لي برحمتك فخذها منّي.. ولا تدع لي منها شيئاً.. " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لا يقول ذلك إلاّ جاحد كافر.. وأنت يا أخي ممّن أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فلا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً أقبل على الله، لتكون حبيب الله، فالتائب حبيب الله.. وإلاّ فإنّ الأجل إذا حلّ بك في ليل أو نهار، فلا ينفعك عندئذ ندم ولا اعتذار، فمدّ يدك أخي ولا تتردّد، وعاهد الله منذ هذه اللحظة، وكن رجلاً.. فالرجال بحقّ هم الأتقياء، الأوفياء بالعهود، الذين يغلبون الشيطان ولا يغلبهم.. وسترى في لذّات الدنيا الحلال من اللذّة والمتعة أضعاف أضعاف ما كنت تراه في لذّاتِها المحرّمة، لأنّك ستأخذهَا بحقّها، وببركة الله عليك فيها.. "

سمع هذه الكلمات، فتفتّحت لها مسامع قلْبه، وذرفت عيناه الدمُوع بغزارة وحرارة، فكانت إيذاناً ببدء حياة جديدة سعيدة..

فتاب إلى الله تعالى توبةً نصوحاً، وأقبل على الله بصدق، ثمّ عزفت نفسه عن الدنيا فأسهر ليله وأظمأ نهاره، ولم ير ضاحكاً مستبشراً، وعندما لتطوّر كان يعاتب في ذلك كان يعتذر برفق، أنّ الأمر خارج عن إرادته.. ولم يلبث سوى شهر وبضعة أيّام، حتّى نزلت به حمّى حار بأمرها الأطبّاء، فلم يستطيعوا تخفيض حرارته بكلّ ما أوتوا من علم وخبرة، وكانت صحّته تتدهور تدهوراً سريعاً، وهو صابر رابط الجأش، لا تسمع منه إلا كلمات الرضا عن الله، والتسليم لقضائه وقدره، ثمّ جاءه الأجل والقرآن الكريم بين يديه، وكانت آخر آية تلاها: { الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) } الرعد. ثمّ مال الكتاب العزيز على صدره، وأسلم الروح إلى بارئه..

27 * مات محرماً ملبّياً..

لم يكن يعرف مرضاً، أو يشكو من علّة، ولكنّه عندما عزم على السفر لأداء فريضة الحجّ حرص على زيارة جميع أقاربه ورحمه، وطلب من كلّ من زاره أن يسامحه إن صدر منه أيّ تقصير في حقّه.. وكنت ممّن زارهم، فعجبت لكلامه، وقلت: كأنّه مودّع، بل صرّح لي أنّه ربّما لا يعود إلينا، وقلت في نفسي: لعلّها كلمة يقولها كما يقولها كثير من الناس، ولا يقصدون ما وراءها.. ولكنّه والحقّ يقال كانت ذات لهجة صدق توحي بما وراءها..

وفي مكّة المكرّمة قضى أربعة أيّام كان فيها في غاية الأنس والسعادة، لا يفارق الحرم الشريف إلاّ لحاجة أو ضرورة، وهو ينتظر مع رفاقه يوم عرفة بفارغ الصبر، وبينما كان يتوضّأ ضحى بعض الأيّام، ليذهب إلى الحرم قبل ساعات.. وقع عن كرسيّ الوضوء ميتاً، ولم يشعر به أحد من رفاقه إلاّ من صوت الضجّة.. ودفن في مكّة، ولمّا يقضِ فريضته، ولكنّ الله تعالى كتبها له بمنّه وكرمه، ويبعث يوم القيامة محرماً ملبّياً..

28 * في طريقه إلى الحرم..

وفي المدينة المنوّرة، خرجنا ذات يوم من صلاة العصر من باب السلام، فوجدنا رجلاً في الثلاثين من العمر، ممتلئاً صحّة وشباباً، ممدّداً على الأرض، على مقربة من باب السلام، فحسبه الناس مغمىً عليه، فبادروا إلى إنعاشه، ولكنّه كان لا حراك فيه ولا نفس.. فعلمنا أنّ الأجل قد حلّ وهو مقبل على ربّه، وإلى حرم نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم.. فعسى أن تكون بشرى عاجلة، بحسن الخاتمة..

إنّها ميتة يحبّها الله، ولكن أليس هناك ما هو أحبّ إلى الله.؟! أليس لو كان قد بكّر إلى الصلاة نصف ساعة، لأدركه الأجل في رحاب المسجد! فشتّان بين من يكون موته في الرحاب، ومن يموت عند الباب أو الأعتاب ! وفي كلّ خير..

29 * في طريقه إلى المنبر..

كنت أسمع به ولا أعرفه، وأحبّه في الله، لما أسمع من ثناء الناس عليه، وانتفاعهم بخطبه ومواعظه، قد كتب لحديثه القبول، ولمواعظه التأثير.. كان شابّاً نشيطاً، أصغر منّي سنّاً، وما علمت عنه أنّه يشكو مرضاً أو علّة.. وجاءني بعض المصلّين يوماً يقول لي: أما سمعت بخبر خطيب مسجد كذا.؟ قلت: وماله.؟!

قال: تأخّر عن الخطبة يوم الجمعة، وكنت أريد الصلاة في مسجده، ولم يكن من عادته التأخّر، فخرج جاره من المسجد، وقد رآه خارجاً من بيته قبله.. فمشى في طريق بيته، فوجده قد جلس على درج عمارة في طريقه، ورأسه بين يديه، فظنّه يشكو صداعاً، فكلّمه فلم يجبه بشيء، فحرّكه، فوجده قد فارق الحياة، وخطبة الجمعة في جيب ثوبه، لم يتمكّن من عرضها للناس.! وما أدري أمواعظه للناس حيّاً كانت أبلغ أم موعظته للناس ميتاً.!؟

30 * كان يسعى في الصلح بين زوجين..

ما أقلّ المروءة في الناس.! وما أقلّ المصلحين.! وقد كانوا فيما مضى عماد الأمّة، ولحمة وجودها وسداها.. ولكنّهم لن تنقطع خيوطهم عن مجتمعات الأمّة، لأنّ الخير فيها باقٍ وماضٍ إلى يوم القيامة..

وتأبى المروءة على أصحابها ألاّ يستجيبوا لندائها كلّما دعتهم، مهما صعبت المهمّة، أو بعدت الشقّة.. وكان من أعزّ من عرفت من رجالها أبو صالح، هذا الرجل الوادع، الخلوق الحيي المهذّب، الذي ما عهد عنه أن قال: لا، لمن طلب منه أيّ شيء في ليلٍ أو نهار.. وألف منه أهله هذه الخلائق، فكانت حياتهم معه في عنت، وكانوا يحاولون جهدهم أن يحولوا بينه وبين بعض المهمَّات والأخبار إشفاقاً عليه، وعلى أنفسهم أن يكون حظّهم منه أقلّ الحظوظ وأدناها.. ولكنّهم عبثاً كانوا يحاولون.!

جاءهم مرّة على عجلٍ فرتّب محفظة سفره.. وعندما سألته زوجته: إلى أين.؟ لم يجبها إلاّ بقوله: نريد أن نصلح بين زوجين.! ومضى مسرعاً كانت السيّارة بانتظاره، ليمضي من حلب إلى حمص يسعى بين أسرتين مصلحاً..

وجاءت الأمطار في الطريق والسيول، واعتصم هذا الركب بسيّارته، وكانوا مع صاحبنا ثلاثة، فتوقّفوا في جانب الطريق، ريثما تهدأ الأمطار والسيول.. ولكنّها كانت تشتدّ وتزداد، حتّى استحالت الأرض من حولهم إلى ما يشبه النهر الجاري، ثمّ تمادى السيل وازداد، حتّى جرف السيّارة بمن فيها، وطغى عليها، وغمرها بلجّته، والتهم من فيها.. وعُثر عليهم بعد أيّام موتى في سيّارتهم، قد تلفّفوا ببطّانيات من شدّة البرد..

واشتدّ حزن أهله عليه، ومعارفه ومحبّيه، فرأى بعض أقاربه رجلاً من الصالحين في النوم، فقال له: ما لك يا فلان.؟! فقال له: أنا حزين على أبي صالح، فقال له: ولماذا تحزنون عليه بعد ما رأى من العزّ والكرامة.؟! قال: وماذا رأى.؟! قال: لقد استقبله في موته ثلاثة وعشرون ملكاً، وغفر الله له وأكْرمه.! فقال له: وبماذا غفر الله له.؟ قال له: بمروءته وخدمته للناس وقضاء حوائجهم..

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين