وقائع وأخبار فهل من مدكر ؟ (3)

ما أكثر الأحداث والوقائع التي يعرفها كلّ إنسان منّا من موت الفجاءة.. الذي دهم بعض الناس على اختلاف أعمارهم وأحوالهم، فكان موتهم عبرة لمن حولهم، ولكنّها عبرة موقوتة قاصرة، ثمّ عاد الناس إلى ما كانوا عليه من لهو وغفلة..

وهذه الوقائع التي أقدّمها لك أخي القارئ ليست من بنات أفكاري، ولا من نسج الخيال، وإنّما هي ممّا أعرف أشخاصه حقّ المعرفة، أو ممّا سمعته من ثقاة الناس، وفيه العبرة والموعظة.. والسعيد من وعظ بغيره..

إنّها قصص ومشاهد واقعيّة، من حياتنا المعاصرة، أرويها لك، ولعلّك قد سمعت ببعضها، ولعلّك تعرف أكثر منها.. ولا نقصد بها شماتة بأحد أو تشهيراً، وإنّما نريد بها العظة للأحياء والاعتبار..

14 * راقصون لاهون.. والموت يرقبهم..

كانت أمنيةً له أن يرقص في عرس صديقه فرحاً به، بعد أن تأخّر زواجه كلّ هذه المدّة.. وكلّما رآه أعلن له هذا الوعد الذي يراه ديناً عليه.. وفي ليلة الفرح كان كثير من الأصدقاء لا يهدءون.. إنّهم يظهرون فرحاً صادقاً، لمن وقف بجانبهم في كلّ مناسبة.. واشتدّ الضجيج، وعلت أصوات الغناء والفرح، وكان أبو مختار في وسط الحلقة، يقفز عن الأرض بحركات بهرت أنظار من حوله.. وفجأة وقف ودارت به الأرض، أو الدنيا بما فيها.. ولم يدر كثير ممّن حوله ما عرض له.. وما هي إلاّ لحظات حتّى وقع مغشيّاً عليه.. ووقف الراقصون.! وتجمّع الناس عليه.. واقترب منه طبيب كان أحد الحاضرين.. وجسّ نبضه، واقترب من صدره.. وما هي إلاّ لحظات حتّى أعلن للحاضرين أنّ الرجل قد مات.!

15 * المغنون الماجنون.. ثمّ جاءتهم شجرة الموت تسعى..

ها قد أعلنت السماء يوماً من أيّام غضبها المدمّرة.. فالعواصف تزمجر، كقطيع من الأسد الغضاب.. والأمطار تنهمر كأفواه مضخّات المياه، تملأ سيولها كلّ جنبات الطرق، وتحيلها إلى أنهار جارية.. وحذّرت الإذاعة المحلّيّة الناس ألاّ يبرحوا بيوتهم.. وليس ثمّت من ذي عقل إلاّ وقد عاش ساعات ضعفه، وتذكّر ربّه في تلك الساعات المخيفة، واعتصم بمنزله، يسمع آخر أخبار تلك العاصفة الغضوب.. ومسيرتها الهائجة..

ولكنّ قوماً قد ولعت بالعبث نفوسهم، كانوا قد أعلنوا القيام بحفلة غناء صاخب على طريقتهم التي ارتضوها، على قارعة الطريق، وفي الساحات العامّة.. إنّهم يشكّلون جمعيّة عابثة لا تعرف إلاّ اللهو والمجون، وأن تجتذب إليها كلّ يومٍ مزيداً من الأعضاء والأنصار..

ولكنّ هذا اليوم لا يسمح لهم أن ينفّذوا رغبتهم حيث يريدون، فاقترح عليهم زعيمهم أن يقيموا احتفالهم في الهواء الطلق، ليتحدّوا غضبة الطبيعة بزعمهم، وليكون من أمرهم نبأ يسير بحديثه الناس.. وأعجبوا بالفكرة، وزيّن لهم سوء أعمالهم، وتجمّعوا حيث أرادوا، وساروا إلى ضاحية من ضواحي باريس.. واستظلّوا من الريح والأمطار بشجرة ضخمة وارفة الظلال.. وكان يوماً لا عاصم فيه من أمر الله إلاّ من رحم، وبينما هم في لهوهم ومجونهم زمجرت رياح العاصفة زمجرة هائجة.. فاقتلعت الشجرة التي تظلّهم، وكأنّها نبتة صغيرة يقتلعها طفل صغير، وحملتها فوق رءوس القوم، ولو ثبتوا في مكانهم لكان بلاؤها عليهم محدوداً، ولكنّهم هاجوا وهربوا أمامها، وكأنّهم يريدون أن يكونوا في مرماها، فوقعت عليهم، فكانت أغصانها ذات الظلال الوارفة بالأمس كأنّها مخالب الوحوش الكاسرة وأنيابها، فما نجا منهم إلاّ جريحٌ كسير، والبقيّة افترسها الموت، وباءت بسوء المصير..

16 * والله لا أزال أغنّي حتّى ينقطع هذا النفس.!

كان صوته للناس فتنة، وشخصه فتنة أكبر، وكان مفتوناً بنفسه على قدر فتنة الناس به، بل بصورة أكبر.. وكلّما حقّق في عمله ما يسمّيه إنجازاً كانت الفتنة به أكبر، وكان وراء تلك الفتنة أبواب للشرّ والفساد أعظم، وأدهى وأمرّ.. حتّى تهالكت قواه، وأصبح وهو في سنّ الأربعين، وكأنّه قد تجاوز الستّين.. واجتمعت كلمة الأطبّاء عليه أن لابدّ له من التخفيف عن نفسه.. فأبى عليه غروره وكبرياؤه، فتحدّى أطبّاءه.! وقال لهم: والله لا أزال أغنّي حتّى ينقطع هذا النفس.! وكان يظنّها كلمة، ليس لها من تبعة.! ومضى في لجّة الهوى.. بل تمادى أكثر، وكأنّه يريد أن يغتنم ما تبقّى من كأس العمر، ولو بمثل الانتحار أو هو إليه أقرب..

ورتّب حفلة صاخبة لاهبة، كان ما وراءها أسوأ ممّا قبلها.. ودعا لها من كبار القوم ما أغرى العامّة بحضورها.. ودعا كلّ من يخطر له على بال، إنّه يريد أن يتحدّث بذكره الركبان، وأعدّ لكلّ أمر عدّته، ووقف على خشبة المسرح، وبدأ بداية أخذت ألباب الحاضرين، وثنّى بمثلها، وهاج الناس وماجوا.. وصاح صوتاً كان الأخير في حياته، ووقع على الأرض ميتاً.. لقد انقطع نَفَسُه، وبرّ بقسمه.. ويموت المرء على ما عاش عليه..

17 * والهاتف الجوّال على أذنه..

أقام الدنيا وأقعدها أن يملك هاتفاً جوّالاً كما يملك زملاؤه، وهدّد أهله بترك الدراسة، وترك البيت.. ورأى أبوه أنّ أهون الشرّين أن يلبّي له طلبه.. وملك الجوّال، وكان له ما أراد، ولكنّه ضيّع دراسته، وهجر البيت فلم يعد يراه أهله إلاّ لماماً.. وكان عندما يذكّر بكلامه يقول لأهله: إذا أردتّم منّي شيئاً فاتّصلوا على الجوّال.. وكثيراً ما يرى رقم البيت على شاشة الجوّال فلا يبالي بمن اتّصل، ولتكن أمّه المسكينة أو أبوه، ويعتذر بعد ذلك بأنّ الجوّال لم يكن معه.. كان في السيّارة.! كان بعيداً عنه.!

وتغيّرت أطوار سعدٍ، واضطربت أحواله، فربّما جلس في السيّارة تحت المنزل ساعات والجوّال على أذنه، وعندما يدخل البيت تراه عصبيّ المزاج، نابي الألفاظ مع إخوته وأخواته، وربّما تمادى به الأمر إلى والدته، فسمعت منه ما تكره، ولكنّها لا تسمعه إلاّ دعواتها الصالحة.. ونفر منه إخوته وتحاشوا الحديث معه، ولو بكلمة.. 

وطال به الأمر على هذا الحال، وجاء الخبر إلى أهله أنّ له رفاق سوء، وأنّ همّهم أن يصطادوا الفتيات عن طريق هذا الجوّال.. ثمّ نما خبر آخر أنّه قد هوي فتاة لجيرانهم فهو يتحدّث معها ليل نهار.. وثارت ثائرة والد الفتاة عندما بلغه الخبر، ولكن بعد أن تمادى الطرفان فيما لا تحمد عقباه.. وفي ساعة متأخّرة من بعض الليالي سمع الناس صوت طلقات ناريّة قريبة، ففزع الناس ينظرون من نوافذ بيوتهم، ومنهم من خرج يستطلع الخبر.. كان والد الفتاة يقتل سعداً، وهو في سيّارته، والجوّال على أذنه يحدّث الفتاة، ويبثّها غرامه وأشجانه.!

فهل كانت سعادته في جوّاله.؟ لقد دفع حياته ثمن خيانته لجاره.!

18 * كان عوناً للظالم، وسيفاً على المظلوم..

ما ضرّ الإنسان لو أمر بالقسط، ودعا إلى الخير، وكان عوناً على العدل والفضل.؟! أيظنّ أنّ رزقه ينقص.؟! أم يظنّ أنّه يحرم من عمله.؟! أم يظنّ أنّه يقدّم خيراً لمن ولي أمره.؟! وما ضرّ الإنسان لو وضع ميزان التعامل مع الناس ألاّ يحبّ لهم إلاّ ما يحبّ لنفسه، ولا يكره لهم إلاّ ما يكره لها.؟! إذن لنال سعادة الدنيا، ورضوان الله في الآخرة..

كان أبو سليمان عاملاً كثيراً ما شكا للناس ظلم من فوقه، وتقلّبت به الأيّام، وترقّى في مهامّه حتّى أصبح رئيساً على العمّال، يأمر وينهى، ويعاقب ويعفو، وأصبح من دونه يشكو ظلمه أكثر ممّا كان يشكو ظلم رءسائه.. وترقّى في مهامّه حتّى أصبح معاوناً للرئيس، ليس فوقه أحد من البشر سوى الرئيس.. فاشتدّ على الناس ظلمه وبغيه، وشكا الناس أمرهم إلى الرئيس، فلم يجدوا أذناً صاغية، أو رحمةً تخفّف شيئاً من آلامهم، وبلغته شكواهم، فكاد من اشتكاه حتّى فصله من عمله.. فاستعان الناس عليه بسهام السحر، فكم من زوجة صابرة رفعت يديها تدعو على من ظلم زوجها، ورماه إلى البطالة بلا عمل.! وكم من أمّ صالحة، ترى ولدها قد سدّت في وجهه الأبواب بعدما فصله هذا الظالم من عمله.! وكم من شابّ كان يعدّ عدّته ليحصن نفسه، ففقد عمله، فأخذ يبحث في كلّ اتّجاه، وفرص العمل تلوح في وجهه ثمّ تختفي، وعندما يطلب أحدهم منه تزكيةً، يقول له بكلّ صلف: لو كنّا نزكّيك لتركناك عندنا..

وما أجهل الإنسان وأغباه، عندما لا يعلم أنّ هذه الدنيا قلّب بأهلها.! فبين عشيّة وضحاها حلّ المرض بجسد الظالم من حيث لا يحتسب، وطرح في الفراش يئنّ، ذلك الجسد الذي كان يزأر على الناس، ويهدر، ويرعب العمّال، ويجعل الوجوه عندما تراه تكفهرّ..

وكان أوّل العبر أن أرسل أبو سليمان يطلب تكاليف التداوي والنوم في المستشفى، فجاءه أحد الموظّفين ليقول له: إنّ الرئيس قد أمر بصرف مئة ريال لك، بدل التداوي.. فقال: وما تفعل معي مئة ريال.؟ لقد صرفت حتّى الآن أكثر من ثلاثة آلاف ريال.؟! فقال له: هذا ما تستحقّ حسب النظام.! وكانت تلك كلمته التي يناطح الناس بها في كلّ مناسبة.! بل وقبل أيّام من مرضه.. قالها لهذا الموظّف نفسه، عندما طلب منه تكاليف العلاج لوالدته.! فقال له الموظّف اليوم: يا أستاذ ! كما تكيل تكتال.!

وجمع بعض المقرّبين منه العمّال وقال لهم: إنّ حقّاً علينا أن نزور أبا سليمان فقد نقل إلى المستشفى، وهو في حالة مرضيّة ونفسيّة صعبة، وزيارة المريض فيها أجر عظيم.! فوجم القوم ولم يتكلّم أحد ! ومضت أيّام ولم يزره أحد.! وعاد صاحبه يذكّر الناس بزيارته، وأخذ يستعطفهم بكلماته، فتجرّأ بعض العمّال وقال له: يا فلان ! إنّ أبا سليمان لم يترك لنفسه صاحباً، وليس من عادة الناس أن يزوروا من لا يحبّون.!

وطال مرضه واشتدّ، ولم ير تلك الأيّام الصعبة في حياته، من يحمل له الودّ، أو يسمعه كلمة مواساة، وغادر الدنيا، وليس حوله أحد سوى بعض قرابته.. وتنفّس خلق كثير الصعداء لموته.!

وكان كلّ من عرفه يقول: لقد أصابته دعوة المظلومين.. فماذا أخذ من هذه الدنيا.؟! وماذا تَرك.؟!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين