بلغنا اليوم (أي سادس شعبان سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة وألف) نعي شيخنا المجيز المفسر الكبير الشيخ محمد علي الصابوني، وهو خبر أحزننا وأحزن العلم وأهله، رحمه الله رحمة واسعة.
وهو العلامة الشيخ محمد علي الصابوني، ولد في سورية بمدينة حلب الشهباء عام 1930م من أسرة عريقة في العلم، وتلقى علوم العربية والفرائض وعلوم الدين على يد والده الشيخ جميل، وحفظ القرآن الكريم في الكُتّاب وأكمل حفظه في الثانوية وهو في سن مبكرة، ومن أبرز شيوخه العلامة الشيخ محمد نجيب سراج، والشيخ الكبير أحمد الشماع، والعالم الجليل الشيخ محمد سعيد الإدلبي، والعلامة المؤرخ الشيخ راغب الطباخ، والشيخ محمد نجيب خياطة شيخ القراء، وغيرهم من العلماء والشيوخ الأفاضل في ذلك العصر، وكان يحضر دروساً خاصة على أيدي بعض الشيوخ في المساجد والبيوت.
وتلقى الدراسة النظامية في المدارس الحكومية، ولما حصل على الشهادة الابتدائية انتسب إلى إعدادية وثانوية التجارة فدرس فيها سنة واحدة، ولما لم توافق ميله العلمي -لأنهم كانوا يعلِّمون فيها الطلاب أصول المعاملات الربويّة التي تجري في البنوك- هجر الإعدادية التجارية (مع أن ترتيبه فيها كان الأول على زملائه) وانتقل إلى الثانوية الشرعية التي كانت تسمى (الخسروية) في مدينة حلب وفيها درس الإعدادية والثانوية، وكانت دراسته فيها مزدوجة تجمع بين العلوم الشرعية والعلوم الكونية التي كانت تدرس في وزارة المعارف، فقد كانت المواد الشرعية كلها من التفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والفرائض، وسائر العلوم الشرعية إلى جانب الكيمياء والفيزياء والجبر والهندسة والتاريخ والجغرافيا واللغة الإنجليزية تدرّس أيضاً فيها، وكانت دراسته جامعة بين الدراسة الشرعية والدراسة العصرية، وتخرج من الثانوية الشرعية عام 1949م، ولما أنهى دراسته الثانوية بتفوق ابتعثته وزارة الأوقاف السورية إلى الأزهر الشريف بالقاهرة على نفقتها للدراسة الجامعية، فحصل على شهادة كلية الشريعة منها بتفوق عام 1952م، ثم أتمّ دراسة التخصص فتخرج عام 1954م من الأزهر الشريف حاصلاً على شهادة (العالمية في تخصص القضاء الشرعي).
ورجع بعد دراسته في مصر إلى بلده (سورية) فعيّن أستاذاً لمادة التربية الإسلامية في ثانويات حلب الشهباء ودور المعلمين، وبقي في التدريس ثماني سنوات منذ عام 1955م إلى عام 1962م، وانتدب إلى المملكة العربية السعودية أستاذاً مُعاراً من وزارة التربية في سورية للتدريس بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، وكلية التربية بجامعة الملك عبد العزيز فرع مكة المكرمة، وكان على رأس البعثة السورية إلى المملكة آنذاك، فدرّس فيها ما يقارب ثمانية وعشرين عاماً، وتخرج على يديه أساتذة الجامعة في هذه الفترة الطويلة، ونظراً لنشاطه العلمي في البحث والتأليف فقد رأت جامعة أم القرى أن تسند إليه تحقيق بعض كتب التراث الإسلامي فعيّن باحثاً علمياً في مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي.
واشتغل في تحقيق كتاب (معاني القرآن) للإمام أبي جعفر النحاس المتوفى سنة 338هـ، وقد خرج الكتاب في ستة أجزاء، ثم انتقل الشيخ للعمل في رابطة العالم الإسلامي كمستشار في هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وبقي فيها عدة سنوات قبل أن يتفرغ للتأليف والبحث العلمي، ومن مؤلفاته صفوة التفاسير، وروائع البيان في تفسير آيات الأحكام، وقبس من نور القرآن الكريم، والتفسير الواضح الميسر، وكشف الافتراءات في رسالة التنبيهات حول صفوة التفاسير، والتبصير بما في رسائل بكر أبو زيد من التزوير.
زيارتي له:
سمعت إلى خطابه أولا في مؤتمر في تركيا 17 من ذي القعدة سنة 1431، وهذه أول رؤية له، وقد كنت سمعت عنه كثيرا، واستفدت من كتابه (صفوة التفاسير) وأنا طالب في دار العلوم لندوة العلماء.
ثم زرته خلال الحج ليلة الاثنين سادس عشر ذي الحجة سنة 1439 في صحبة الأخ الكريم العالم المسند تركي الفضلي ومعي بناتي سمية وفاطمة وعائشة، ولحقنا صاحبنا الفاضل الشيخ مجاهد علي، فدخلنا على الشيخ بعد صلاة العشاء، ولم يتيسر هذا اللقاء إلا بفضل من الله وسعي أخينا تركي الفضلي، فجزاه الله خيرا.
سلمنا على الشيخ وهو طريح الفراش وقبلنا يده، وأجاز لنا ولأولادنا إجازة عامة، ودعا لنا بدعوات كريمات، وخص بناتي بدعوات، وحدثني قليلا، وسررنا جدا باللقاء والإجازة.
وزرته مرة أخرى يوم الأربعاء 11 شعبان 1440 ومعي زوجي وبناتي سمية (ومعها زوجها وولداهما عاصم وآسية)، وهالة (ومعها أولادها أماني وأسامة ومريم) وفاطمة وعائشة وسبطتي عالية ابنة حسنى، ونحو مائة طالب من معهد السلام، ونحن قافلون من زيارة مدينة بورصة التركية، ودخلنا الساعة الرابعة والنصف في بلدة الشيخ مدينة يالوفا، عاصمة المحافظة المسماة بالاسم نفسه أي يالوفا، وهي مدينةٌ ساحليةٌ هادئةٌ تقع في شمال غرب تركيا، وتمتاز بجوها المعتدل صيفاً وشتاءً، تأسّست في القرن السابع قبل الميلاد، وفيها قصر كوسك الذي يعود إلى الطراز العثمانيّ، ويعرف هذا القصر أيضاً باسم بيت المشي.
وصلنا إلى منزل الشيخ في الساعة السادسة وسلمت عليه وقبلت يديه وجلست بجانبه، وسلم عليه أصحابنا كلهم رجالا ونساء، وأجاز لنا جميعا وللمسمَّين في الاستدعاء إجازة عامة لما تصح له روايته ولمؤلفاته وكتاباته، وفرحنا جدا بما يسَّر الله لنا من مقابلته واستجازته.
ولنعم الشيخ كان هو علما وصلاحا وعناية بكتاب الله وخلقا وتواضعا، فرحمه الله تعالى وتغمده بواسع مغفرته وكرمه وأنزله فسيح جنانه.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول