وفاء أخروي بين الأخوين عصام عطار وحسن هيتو 

لا زلت منتشياً من آثار تلك الجلسة التي جلسناها بأخرة إلى شيخنا العلامة محمد حسن هيتو أمتع الله بطول حياته ودوام عافيته ـ ولا زلت أتحسس طعم تلك اللحظات- التي مرت سراعأً في رحابه الفسيح حفظه الله - تحت وبين أضراسي . 

ولكم حاولت تصوير تلك السعادة الغامرة التي تنتابني بين يديه، وتقييد سوانح الأفكار التي تردني، ولكني كنت في كل مرة ألقي القلم جانباً، وأطوي أوراقي حسيراً، وأرفعها على رفوف مكتبتي؛ اعترافاً بعجزي، وإقراراً بضعف بياني عن أن يحيط بأسرار تلك الجلسة العالية . 

لكن ثمة أشياء نسمعها من شيخنا تهز كياننا، وتحرك وجداننا، وتثير كوامن شعورنا، فنجد أنفسنا أمام الحقيقة الغائبة عن أذهاننا ... تلك الحقيقة الماثلة في روعة وعظمة العلم حين يغدو عملاً وامتثالاً وأدباً وأخلاقاً وحضور روح وكرم ضيافة وجمال تواضع . 

إنني أرى لزاماً علي تجاه نفسي وروحي وعقلي وذاكرتي أن أقيد بعض الأخبار والأحداث التي يخبرنا بها شيخنا حفظه الله ، وأعلق على بعض المشاعر التي يبثنا إياها؛ لتؤوي إليها روحي لاحقاً، ويتعلم منها عقلي، وتتأدب بها نفسي. 

ففي الجلسة التي كانت بتاريخ 25/9/2018م، حدثنا الشيخ حفظه الله تعالى عن رفيق دربه وشقيق روحه وأنيس نفسه الأستاذ عصام العطار رعاه الله ، وأخبرنا عن بعض زياراته له ، وكيف كانا يتدارسان الأدب، ويتناشدان الشعر، ويتشاكيان آلام الغربة وفعلها ، ويسترجعان اللحظات الجميلة والذكريات الحالمة في دمشق . 

وحدثنا فيما حدثنا عن آخر زيارة للأستاذ عصام ... تلك الزيارة التي كانت استثنائية بظروفها وأحداثها وحال الأستاذ عصام الذي احتفل بشيخنا أيما احتفال، وصنع له طعاماً يليق به ويكفي قبيلة ، ثم قام يودعه في آخر الزيارة، وعند الباب وقف الصديقان وتعاهدا ، على ماذا يا ترى؟ تعاهدا على الوفاء ؟ تعاهدا على عدم نسيان كل منهما الآخر ؟ تعاهدا على الدعاء لبعضهما ؟ لا ... فتلك من المسلّمات عندهما ... وأمور مضمونة ومكفولة ، وكلها تأتي في سياق الوفاء الذي هو من صميم طباعهما ومتجذر في أصل قلبيهما، فلا يستدعي ذلك تعاهداً منهما عليه . 

لقد تعاهدا على الوفاء في الآخرة ، قال شيخنا للأستاذ عصام : إذا دخلت الجنة قبلي فأدخلني معك ، وإذا دخلت قبلك أدخلتك معي وشفعت لك ، فقال الأستاذ العطار : نعمت التجارة . .. وهنا بكى شيخنا مرات قبل أن ينهي لنا حكاية الموقف . 

أي ود هذا ... وأية أخوة في الله ... أي صدق في الأخوة ... أي وفاء لا يوصف ... ألا فبمثل هذا فلتقم الأخوة، وتعقد الصداقات، وتبنى العلاقات !!!

ولن أعلق على هذا التعاهد بنفسي ، ولكن أدع التعليق لشيخنا حفظه الله فهو خير من يعلق ويعلل ويحقق، قال حفظه الله : لقد مات أصحابي كلهم ... ولم يبق إلا الأستاذ عصام .... ولا أشق على النفس من أن يموت أصدقاء الرجل ويبقى هو على قيد الحياة ... يلتفت يمنة ويسرة فلا يجد من يبثه شكواه، ولا من يعقل عن لفظه معناه ... ثم أنشدنا متمثلاً بقول الطغرائي في لامية العجم التي يحفظها عن ظهر قلب : 

هذا جَزاءُ امرئٍ أقرانُه درَجُوا من قَبْلهِ فتمنَّى فُسحةَ الأجلِ

سيدي أبا عبد الله ... أمتعنا الله بطول حياتك ونفعنا بعلمك وأعاننا على البر بك وإسعادك وإدخال البهجة على قلبك ... ولئن فقدت أصحابك فإنك لم تفقد تلاميذك وأحبابك ... فها هم حولك ... ويتطلعون للقائك كل آن ... ويدعون أن يحفظك الرحمن ... ويقدمونك على كل عزيز عندهم ...

لَقَدْ كنْتَ في قَوْمٍ عَلَيْكَ أَشِحَّةٍ ... بنَفْسِكَ إِلاَّ أَنَّ ما طاح طائحُ

يَوَدُّونَ لَوْ خاطُوا عَلَيكَ جُلوُدَهُمْ ... ولا تَدْفَعُ البين النُّفُوسُ الشَّحَائِحُ