ورحل الشاعر المهاجر الدكتور عبد الرحمن بارود

 

صباح السبت 3 جمادى الأولى 1431ه الموافق17/4/2010م تلقيتُ رسالة هاتفية تنبئني بوفاة المربي الأستاذ الجامعي والشاعر الأديب الدكتور عبد الرحمن بارود ، رحمه الله وتقبله في المهاجرين الصالحين ، وسطع في وجداني لحظتها وعد الحق سبحانه في قوله:

( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما )100النساء.

فالراحل المربي فلسطيني المولد ، ولد في قرية بيت داراس من قرى اللواء الجنوبي عام 1937 م ،وكان يومها يتبع لواء غزة، ودرج في بساتينها وحقولها إلى أن حلت العصابات الصهيونية فيها تستبيحها بشراسة بعد معركتين عام 1948م ،وسقطت القرية فيمن سقط يومها من المدن والقرى، وهُجر مع أسرته إلى مخيم جباليا في غزة ،وقدحت الأحداث - التي شهدها والأهوال التي واجهها والاستبسال الذي غمره بحماسه- موهبته الشعرية ، فأخذ يقرضه وهو بعدُ طالب في الابتدائية في شتى المناسبات ومختلف المواقف الحياتية.

وأتم تعليمه المتوسط والثانوي ، وابتعثته وكالة الغوث إلى كلية الآداب جامعة القاهرة ليتم تعليمه الجامعي وحصل على درجة الليسانس ، ثم حصل على منحة من جامعة القاهرة ليحصل على درجة الماجستير والدكتوراه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى في اللغة العربية .

انتقل بعدها إلى التعليم الجامعي حيث انضم لأعضاء هيئة التدريس في جامعة الملك عبد العزيز في قسم اللغة العربية وقسم الدراسات الإسلامية طوال ثلاثين عاما من العطاء العلمي المتميز.

وحين تشرفت بالانضمام لأعضاء هيئة التدريس في قسم الدراسات الإسلامية في جامعة الملك عبد العزيز سعدت بصحبته، وأنست بنصحه حتى في صمته.

حدبُ الدكتور عبد الرحمن بارود على طلابه منقطع النظير ، يلقاهم كما يلقى زملائه الأساتذة الجامعيين بالبشاشة والتقدير ، وإذا كنت في زيارة مكتبية له ودخل طالبٌ تراه ينهض لاستقباله قائما ،ويضيفه بالحلويات التي كانت لا تغيب عن مكتبه ، ويستمع له ويحاوره برقي واحترام وإصغاء ، ويجود بالنصيحة له كما يجود بها لأقرب الخلص منه ، حتى ليخال زائره من غير العاملين في الجامعة أنه يرعى ذي جاه أو منصب ، والحقيقة أن هذا الخلق منه يحكي نبله مع الجميع على درجة واحدة.

كان شعاره الذي طالما سمعته يردده كلما التقيته في الجامعة بعد السلام والتحية- أنا أُحب كل الناس ، أنا أحبُ كل المسلمين -.

ورأيت هذا عندما وقفنا على قبره ساعة الدفن ، وأخذ بعض الشباب يستعد لنزول القبر ليوسد الدكتور عبد الرحمن في قبره يقول: إنه أبي ، فيرد الأخر قائلا : إنه أبونا جميعا ،رحمه الله، وجعل قبره روضا من رياض الجنة.

شرفت بمزاملته في تدريس مادة حركات الإصلاح للمستوى الرابع من طلاب قسم الدراسات الإسلامية والثقافة الإسلامية المستوى الرابع ، وأفدت منه رحمه الله.

كان لا يفتر لسانه عن ذكر ربه ، ينزه سمعه عن الغيبة والنميمة ، يكره الخصومة، ويبذل جهده للإصلاح دواما متحينا الظرف المناسب بحكمة وكياسة، لا يرضى بالتصنيفات أن توظف لتشتيت الصف الإسلامي، وتفريق الجماعة ، ويرفض التعصب ، ويحرص على الود والتقدير للجميع ، ويلتمس العذر للآخرين عند الخطأ، .

يحرص على التأسي بسنن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمره حتى في ثيابه .

يتفجر قلبه شوقا لوطنه ،ونصرة الأقصى والقدس الشريف ،ويفيضه شعرا ملتهبا رصينا يبهر ذائقة الأدباء والشعراء .

وإني لأذكر في السنة الأولى من انطلاقة قناة اقرأ الفضائية عندما دعوته ليشاركنا في أول حملة تبرعات فضائية –للقدس- فلبى، وشاركنا وقتاَ جيدا من الحملة، وألهب بشعره وبيانه الصادق المكلوم مشاعر المشاهدين ، وتتابعت التبرعات بقدر وأشكال أدهشت مدير القناة يومها الدكتور عبد القادر طاش رحمه الله .

ولم يتردد يوما وبكل تواضع وهمة عن المشاركة في البرامج المتعددة على قناة اقرأ وغيرها.

العطاء التعليمي والدعوي كان له الأولوية في حياته وترتيب برامجه وتحديد التزاماته ، توعية الشباب ، سماعهم ، مشاركتهم كانت بلسم حياته ،لا تلقاه إلا متبسما، رغم الآهات التي تثور في داخله على وطنه السليب.

وكان يتجنب الكلام لمجرد الكلام ، فتراه مثلا في مجالس القسم الأكاديمية

يطيل الاستماع، فإن تكلم سمعت منه رأيا ناضجا، ونصحا خالصا، وكم تعلمت من صمته ، وأخذني برزانته وسعة صدره.

مع موهبته الشعرية الفائقة إلا أن التعليم الجامعي ، والعمل الدعوي، وحرصه على النظم الشعري الراقي المتفرد، جعل غزارة إنتاجه الشعري أقلّ مما هو قادرٌ عليه بحكم الموهبة والملكة اللغوية الفائقة، و الذي كنا ننتظره منه، ومع ذلك فشعره الذي نظمه في مختلف المناسبات وخاصة لنصرة قضية القدس وفلسطين عظيم لما فيه من إبداع ،وسمو، وتدفق ، ودقة توظيف للمفردة اللغوية ، وعاطفة جياشة، وبُعد نظر ،واستحضار للتاريخ، وتوظيف للتجارب والحكم، و جزالة وسلاسة في النظم.

وما أروعه حين ينطلق بهممك عاليا وأنت تسمعه يلقي قصائده من عرين العزة والكرامة والإباء والشموخ .

وقد طبعت أعماله الشعرية كاملة ،وسُر بها، وهي تُعد في مراحلها الأخيرة للتغليف لتكون بأيدي محبيه ومحبي شعره ، وذائقي الشعر العربي الأصيل وذلك قبل يومين من وفاته رحمه الله ، وأطلع عليها أصدقائه وأحبابه، ونرجو أن تكون قريبا في متناول الجميع.

تفرغ بعد تقاعده عن التدريس للدعوة ، وأعماله العلمية والأدبية، والتواصل الاجتماعي.

وكنت حتى في سني حياته الأخيرة لا ترى فيه إلا حماس الشباب وهممهم مع تجاوزه السبعين ، لا تخاله وهو يتحدث أو يدلي برأي إلا شابا في الأربعين من العمر.

ويوم الجمعة شكا من الم، ونقل للمستشفى ، وتوفي رحمه الله صباح السبت،و ما أن ذاع خبر وفاته حتى توافد إخوانه وطلابه ومحبيه للصلاة عليه عصر السبت في مسجد فلسطين بجدة ، وشيع في جنازة مهيبة إلى مقبرة بني مالك،

ولسان الحال ينادينا من بعده بقول الشريف الرضي:

أرواحنا دَينٌ وما أنفاسنا=إلا قضاء والزمان غريمها

فلأي حال تستلذ نفوسنا=نفحات عيش لا يدوم نعيمها

رحم الله أبا حذيفة الدكتور عبد الرحمن بارود العالم المجاهد الداعية، وأثابه عن الإسلام والمسلمين وطلابه ، والعلم، وقضية فلسطين أحسن الجزاء وأوفاه

نشرت 2010 وأعيد تنسيقها ونشرها 17/3/2019