وداعًا شيخنا القرضاوي

وداعًا شيخنا القرضاوي

 

يحيى محمد المصري

رحيل العلماء العاملين يفرحهم بلقاء ربهم، ويختم رحلة دنياهم المحفوفة بالفتن، ولكنه يُبكي الذين يعرفون أقدارهم، وجهادهم، وما سمت إليه هِمَمهم لو أذن به القدر، والعلم الذي قُبض بموتهم.

رحم الله تعالى العلامة الشيخ يوسف القرضاوي، وأنزله منازل روح وريحان وجنة نعيم، وسأجري وراء القلم، لا على سبيل الترجمة، فقد كتب فيها إخوة كثر.

كان كتاب الشيخ (الإيمان والحياة) يومًا بل أيامًا، واحة إيمانية، عشتها في غربة روحية علمية اجتماعية، في مقتبل حياتي، كنت يومها على مفترق طرق بين تيارات متنافرة تشدني، فكنت أقرأ ما يبصرني بالجادة، وكان هذا الكتاب مِن أول ما ثبتني بعد فضل الله تعالى، كنت كلما غشيني كسل أو فتور، أجدد قراءتي للكتاب، أو لبعض مباحثه التي تمكنت من عقلي وقلبي، ولاسيما حين يَرُدُّ على بعض أفكار الماركسيين، وقد كانوا يحيطون بنا مِن كل جانب، أو حين ينقل سطورًا عن بعض كتب الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى يُرجع فيها مادة الإنسان- حين يعرى عن الروح المؤمن- إلى كذا غرامًا من الحديد، وكذا غرامًا من المغنزيوم، وكذا لترًا من الماء...

ما الإنسان بلا إيمان؟!

كان هذا الكتاب وقرينه كتاب (مع الله) للشيخ محمد الغزالي- في تلك الحقبة والمحيط الملحد-، جنة وارفة المعاني، حفظت من كتاب (مع الله) خطبة أبي حمزة الخارجي-وما أسرع ما نسيتُ مذهبه وتشربتُ حكمتَه- وفيها يقول:

(يا أهل مكة، تعيرونني بأصحابي، تزعمون أنهم شباب، وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شبابًا؟ نعم الشباب مكتهلين، عمية عن الشر أعينهم، بطيئة عن الباطل أرجلهم، قد نظر الله إليهم في آناء الليل متثنية أصلابهم بمثاني القرآن، إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقًا إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه، قد وصلوا كلال ليلهم بكلال نهارهم، أنضاء عبادة، قد أكلت الأرض جباههم وأيديهم وركبهم، مصفرة ألوانهم، ناحلة أجسامهم من كثرة الصيام وطول القيام، مستقلون لذلك في جنب الله، موفون بعهد الله، منجزون لوعد الله، حتى إذا رأوا سهام العدو قد فُوّقت، ورماحهم قد أشرعت، وسيوفهم قد انتضيت، وبرقت الكتيبة ورعدت بصواعق الموت- استهانوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، فمضى الشاب منهم قُدُمًا حتى تختلف رجلاه على عنق فرسه، قد زملت محاسن وجهه الدماء، وعفر جبينه بالثرى، وأسرع إليه سباع الأرض، وانحطت عليه طير السماء؛ فكم مِن مقلة في منقار طائر، طالما بكى صاحبها من خشية الله، وكم مِن كف بانت عن معصمها، طالما اعتمد عليها صاحبها في سجوده، وكم من خدّ عتيق وجبين رقيق، قد فلق بعمد الحديد! رحمة الله على تلك الأبدان، وأدخل أرواحها الجنان).

ثم رحت أبحث عن هذه الصفات في زقاقنا ومسجدنا، مستحضرًا حروف أبي حمزة التي حفرت آثارها في فؤادي. ثم كتابه الصغير (مسرحية عالم وطاغية)...

ثم كتابه المرجع (فقه الزكاة) في الجامعة. والحديث هنا عما اطلعت عليه إبان الفتوة، أما كتبه فهي مكتبة متكاملة.

وأما الخطأ في الاجتهاد- لفئة لا تذكر في حياة العلماء وبعد وفاتهم إلا الأخطاء- فقد قال هو ما معناه: إن الله يلوم القاعدين الذين لا يتناهون عن المنكر، ولا يأمرون بالمعروف، المتوانين عن نصرة دينه، ولا يلوم القائمين بالنصرة ولو أخطؤوا في اجتهادهم، بل يكتب لهم أجرًا إن أخطؤوا، وأجرين إن أصابوا.

وعن معرفة أقول: إن كثيرًا ممن أعرف- وأقيس عليهم من لا أعرف- يقلدون مَن يُسَلّمون لهم تسليمًا، توزيعَ صكوك كهنوتية؛ دون أن يعرفوا جهد الراحل وجهاده، ودون أن يقرؤوا له كتابًا واحدًا، اللهم إلا مقاطع مرئية- شأن العامة والكسالى- نسأل الله تعالى لهم-بصدق- خروجًا من هذا السجن.

رحمه الله تعالى وألّف بين قلوب المسلمين.