وباء كورونا بين المثالية والمادية في العقل العربي

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى .. وبعد:

فقد كتب بعض الفضلاء يصف هذا الوباء الذي عم بلاؤه الأرض بأنه من جند الله، وكتب آخر يصفه بأنه عذاب، ووصفه غيره بالابتلاء الذي يخوف الله به عباده، وعارضهم فاضل بأنه مرض طبعي، من وصفه بذلك فقد أخطا سبيل العقل وانحدر في مهيع ميتافيزيقي.! 

وبالغ بعضهم في العقلانية فنبز بالجهل من زعم أن الفايروس من جند الله لقوله تعالى (وما يعلم جنود ربك إلا هو) وهذه العقلانية المفرطة كمبالغة بعض المثاليين ممن يغلو في الراديكالية حيث صرح بأن الفايروس صناعة يـهودية لضرب الإسلام، مع أن انتشاره في أوربا أشد.!

ورأيت بعضهم يميل إلى كونه فيروسا مصطنعا اخترعته أمريكا لتهديد الصين وإشغال العالم عن أمر يدبر بليل، حتى قال ابن مايابى الشنقيطي في هذا الفايروس والوباء عند ظهوره:

نسأله الحفظَ من المكارهِ ...... وكلِّ ماكرٍ وكلِّ كارهِ

وأن ننال الأمنَ من كورونا...وكلِّ من بالسوء يمكرونا

فانتدب من رماهم باستيلاء نظرة المؤامرة على تفكيرهم، وأن الأمر لا يجاوز كونه مرضا ميكروبيا يجب أن نسعى في تدبير علاجه لا في الكشف عن مغيباته، وأفرط كاتب آخر فنبز كل من يقول بأنه من جند الله بالفكر الضلالي.!

وبين هذه الآراء التي ظاهرها التضاد والتنافر، يحار الناس وتضطرب أذهانـهم، حتى إن بعض غلاة الليبراليين من دعاة تسفيه العقل العربي، اغتنم هذه الملاحاة واندفع يُسخّرها لتأييد سخريته من العقلية العربية، ولو علم هذا أن كثيراً من المفكرين الغربيين يخوضون في نظير ما يخوض فيه العقل العربي لانكف عن سخريته، إذ عهدنا بالقوم يخضعون بذلة غريبة لعقلنة الغرب حتى إن الواحد منهم ليستشعر النقص تجاه كل ما هو غربي، كأن بينه وبين مطلع الشمس عداوة.!

وفي هؤلاء يقول أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: (إن لكل شيء آفة، ولكل نعمة عاهة، وإن آفة هذا الدين وعاهة هذه النعمة، عَيَّابون طَعَّانون، يُرونكم ما تحبّون، ويُسرُّون ما تكرهون، طَغَام مثل النعام يتبعون أول ناعق).

وحالهم قد أجاد في توصيفه العلامة الزمخشري، فإنه قال في قوم يستشرفون لمقالات (الغرب) وإن كانت مخالفة لمحض العقل، من حيث يستنكفون من مقالات الدين وهي حق محض، فقال:

يُصيخ لكسرى حين يسمع قوله ... بصماءَ عن أُذْنِ النبيِّ صَدوفِ

وتعجبُهُ أخبارُ كسرى ورهطه ..... وما هو في أعلاجهم بشريفِ

أو كما ذكر ابن القيم رحمه الله قوما أنفوا من قبول ما وصف لهم من طب نبوي، فإذا قيل لهم إن جالينوس وصفه هشوا له! وهذا نوع من العجر والعي ينسلخ به صاحبه من جلدته وتميمته، لما يستشعره من النقص والعجز تجاه كل ما هو غربي كما مر.!

ولهذا تجد كتابات هؤلاء المتغربنين قليلة الجدوى والفائدة، مزوقة بسفسطات تظهرها بمظهر الحداثة والرؤية التي نـهايتها سراب، وغايتها إخفاء شقاشقهم الساخرة التي لا يلجأ إليها إلا من خذله عقله، وأعياه نظره، وتأيمت بنات فكره، فليسوا في صناعة القلم سوى ربائب على حد قول القائل:

دَعِيٌّ في الكتابةِ يدَّعيها .......... كدَعوةِ آلِ حربٍ في زيادِ

فدَعْ عنكَ الكتابةَ لستَ منها ... ولو أنْقَعْتَ ثوبَكَ في المدادِ

وتراهم في نازلة أو مسألة يستفتون، فيُجيبهم الإصلاحيون بالجواز، فيقولون عنهم إنـهم (شيوخ لبط) كل شيء عندهم جائز ومستباح، وإذا أجابـهم (التقليديون) بالمنع، قالوا: متشددون ومتزمتون، والواقع أن الجواب كامن في قلوبـهم لكنهم يخشون من استفتائها.!

ومنهم من يقول: أليس يجب على الشيوخ أن يبينوا حكم الشرع في كل مسألة ونازلة؟ قلنا: وإذا بينوا لا يعجبكم الجواب، تارة لمخالفته أهوائكم، وتارة تقولون: كل حاجة تحشرون فيها الدين (خنقتونا) دعوا الناس وربـهم وأذواقهم، ولا دخل للدين في السياسة، إلى آخر الكلام المعروف.

فلهذا تجدهم على الفضائيات والمقاهي يسخرون من هذا الشيخ ويسفهون ذاك العالم، جزافا بلا برهان ولا أدنى عقل، سوى احتكار العقلنة وخلع الرجعية على مخالفهم، فأين المنهج العقلاني والعلمي، وأين أخلاق الخلاف وآدابه أيها الإنسان.؟!

وما أجود ما قالت الدكتورة بلقيس الكركي إن أكثر من يعتقد الحاجة إلى الثورة على ما يسميه بالعقل العربي التحجري الديني بالاستعانة بالعقل الغربي، إشكاليتهم أنـهم لا يعرفون من العقل العربي إلا اقتباسات من هنا وهناك، في الوقت الذي نجد فيه مستشرقين من أمثال ديميتري كوتاش يقولون إننا لا نستطيع أن نفهم الفلسفة الغربية دون العودة إلى جذورها الإسلامية، وهذا يوجد اليوم في عامة جامعات الغرب، في الوقت الذي يزعم فيه هؤلاء أن في العقل العربي مشكلات يتعين علينا تحديثها من خلال العقل الغربي، هذا في واقعه انفتاح على لا شيء.!

والواقع أن العوام الذين يقولون في أمثالهم (من فات قديمه تاه) أفقه من هؤلاء المتعقلنين المتظاهرين بالحداثة، ومن أجمل عبارات دان براون في بعض رواياته يقول: (مفتاح مستقبلنا مخبّأٌ في ماضينا) ومن رشيق عبارات الوزير الأديب الدكتور أحمد مطلوب رحمه الله قوله: (والـمُجدِّد إذا لم يصدر عن التراث يظل بعيداً عن الأصالة) ولهذا كان الإمعان في التراث درسا وبحثا أول طرق الإصلاح والتجديد، وأما الثورة عليه بكل ما فيه فهو عِيٌّ سببه العجز عن فهمه فيندفع العاجز في استهجانه من حيث ضاق عطنُهُ عنه.

والأصل كما يقول الدكتور محمد عمارة رحمه الله أنا (نقرأ التراثَ والنقلَ بالعقل، ونحكُم العقلَ بالتراث والنقل) وأما العقلنة المطلقة فهي كالجمود على التراث بلا عقل، كلاهما سواء في الخلل والزلل، فهذه عطلت العقل، وتلك عطلت النقل، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فلو قرأ الحداثيون التراث بعين العقل والرضا لا بعين السخط والشعور بالنقص، لافتخروا به كما يفتخر به نُظَّار المستشرقين.

انظر بعين الرضا تُبصر بـها عجبا ... فأعينُ السخط عُمي عن تعجُّبهِ

لكن عيون العِدا تُبدي المحاسنَ في...ثوب المساوئ فاعجبْ من تقلُّبهِ

وتأمل الرفعاء من فلاسفة الفقهاء كأبي الحسن الأشعري وأبي بكر القاضي الباقلاني وابن حزم وابن رشد والغزالي وابن تيمية ونظرائهم ممن أثر في المعارف الإنسانية وارتقت بـهم أساليب الفكر الإبداعي، حتى إن الغرب يفخر بـهم وتقوم سوق العلم على تراثهم في جامعات أوربا منذ دهر وحتى اليوم، هل تجد فيهم من سخر من التراث أو شنع على نصوص الوحي كما يصنع مهابيت الحداثيين اليوم.؟

هذا ابن حزم كبير فلاسفة الأندلس، من تحتفل به مدريد في أسبوع سنوي يقال له أسبوع ابن حزم، يُدعى له السوربونيون وغيرهم من مفكري الغرب فضلا عن العرب، وقد ترجمت كتاباته إلى غير لغة، وأسهم في عامة المعارف الإنسانية، حتى إن رينات دوزي المستشرق استكثر عليه كتاب (الطوق) وزعم أنه نزعة فارسية تسربت لابن حزم من أجداده الفرس! وهكذا تنحط العصبية بالمثقف في درك الدهماء.!

وهذا ابن تيمية قد صنف فيه هنري لاوس المستشرق وعظمه ويرى أن كتابه في السياسة الشرعية كان صنفه للناصر قلاوون دستوراً للحكم، ودرست الباحثة كوج كلين نظرية ابن تيمية في نقد المنطق الأرسطي وأشادت بعبقريته، وعده جوهان هوفر أجود من صنف في نقد الأديان، وهناك دراسات عنه في جامعات جورج تاون وأنديانا وستانفورد ونوتنغهام وغيرها.

وأما ابن رشد الفقيه القاضي المالكي صاحب (بداية المجتهد) فهو أبو التنوير الغربي، وكان جورج سارتون يبالغ في تعظيم عقله وآرائه، ونازع توما الأكويني في هجومه التقليدي على ابن رشد، وتأثر به باروخ سبينوزا الفيلسوف الهولندي الذي ضج العقل الأوربي بأفكاره، وترجم أليمانوس بعض كتبه، وهكذا اعتنى رامون لول بما كتبه الغزالي في المنطق والفلسفة، وهذا باب يطول استقصاؤه وليس من غرضنا بسطه.

أقول: هؤلاء السادة الرفعاء الفقهاء الذين اعتنى بـهم الغربيون، هل رأيت أو سمعت منهم من استهجن التراث أو دعا إلى اطراحه كما يدعو إليه نابتة الحداثيين الذين لا أثر لهم في الإبداع الإنساني والمعرفي سوى الهجوم على الشرع واستهجان نصوصه وازدراء تراثه بأخفَّ من الجُمّاح، بحيث إذا طالعت كتابا للحداثين ينتابك الملل، ويهجم عليك نعاس لا ينجع في طرده فنجان ستاربكس، والواقع الذي ما له من دافع أن مشكلة الحداثيين مع العقل العربي وتراثه أنـهم حجروه في بودقة معينة ثم نظروا إليه من فوهتها:

يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما .... قد حدثوك فما رآءٍ كمن سمعا 

ومن تأمل فيما كتبه حذاق الحداثيين وأمثلهم طريقة، استيقن أن القوم ليس لهم رأي صريح في المعقولات، ولا نظر صحيح في المنقولات، يسيء الواحد منهم فهم النص ثم يُحكِّم فيه سوءَ فهمه، دون مراعاة لما يكتنف النص من عوارض وقواعد يعرفها أهل الفن، فهو يذم ما جهله:

أتانا أن سهلا ذم جهلا ... علوما ليس يدريهنَّ سهلُ

علوما لو دراها ما قلاها ... ولكنْ ذمُّها بالجهل سهلُ 

ونحن لا ننكر مطلقا وجود بعض إشكاليات في العقل العربي المعاصر، وإنما ننكر تخصيصه بـها، والواقع أن الإشكالية التي تكمن في تفكير العقل العربي المعاصر راجعة إلى أصول الاختلاف والنزاع، لا في نفس العقل والفكر العربي، فإن العقل واحد في الناس عربيهم وغربيهم، وإنما تتفاوت العقول فيما يهجم عليها من الواردات، كمحرك السيارة إذا وضعت فيه بانزينا مجوداً فإن السيارة تعمل بجودة فائقة، وإن وضعت فيه بانزينا أدنى جودة كان عمل السيارة أقل جودة، وهكذا تتفاوت العقول في مخزونـها الفكري الذي يرد عليها، وأما العقل فهو هو في أصله ولا يتفاوت في عموم الناس إلا نادراً كعقل الأنبياء أكثر وعقل الحكماء والأذكياء لكن عامة المفكرين تتقارب عقولهم في جوهرها.

والعقل عموما سواء الغربي أو العربي المعاصر، آفته استيلاء فكرة الظفر بالأحقية عليه وازدراء المخالف، فتجد أن غاية المختلفين المتناظرين أن يظفر على خصمه وينزل له عن رأيه، ولا توجد في قناعاتـهم فكرة الإلزام المشترك، وهو أن يطرح كل منهم رأيه وحجته وكسره لدليل مخالفه، ويترك لخصمه حق الرد والذب عن رأيه وحجته، ويدع كل منهما الباقي للقراء يطالعون البحثين والرأيين ويقتنعون بما يلائم عقولهم ومبلغ علومهم.

وهذه المنهجية قد كانت توجد عند السلف الأول فمن بعدهم من علماء التابعين وأئمة الأمصار في كل العلوم والمعارف، ومن تأمل ما في المصنفات من المسائل التي تناظر فيها الصحابة أو تناظر فيها الفقهاء كالشافعي وأحمد ونظرائهما، استيقن ذلك.

فهذا المنهج في الاختلاف قد كان يوجد عند سلفنا، والعقل الغربي اليوم يكاد يتحرر من فكرة فرض الرأي، ويتجه نحو الإلزام المشترك على حد قول الشاعر:

نحن بما عندنا وأنتَ بما .... عندك راضٍ والرأي مشتركُ

مع أن تاريخ الغرب ينضح بكثير من العصبية والتعنت للرأي الواحد وليس يعرف من الاشتراك في الرأي ما يعرفه اليوم، لكنهم بالطفرة العلمية الحديثة قد تمكنوا من احتواء هذه النزعة التقليدية الجامدة، ولهذا تجدهم يتنازعون ويطرح كل من المتنازعين رأيه ودليله (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ثم لا يلتفتون بعد ذلك إلى الوراء، ويحتفظون به في أرشيف الذاكرة بحيث يرجع إليه وقت الحاجة.

وبـهذا لا يتقهقرون إلى الوراء، ويتقدمون نحو المستقبل، لأن العقل قد فرغ من ذلك النزاع وبات يبحث عن مشكلة أو نزاع آخر لبحثه، كما كان عليه حال العقل العربي قديما، ولهذا قدم للإنسانية إبداعا في معارفها النظرية والتطبيقية لا زلنا نفخر بـه من حيث ينتفع بـه العقل الغربي.

والعقل إن سيطرت عليه فكرة الغالب والمغلوب يضيق عطنُهُ عن استيعاب الخلاف والمخالف فلا همة له إلا في الرد على مخالفه وإرغامه على النزول عند رأيه أو اعترافه بالانقطاع والعجز، بحيث يتوقف عقله عن الإبداع إذا لم يشفِ غليله بالرد والانتصار لرأيه، كأن المعرفة عنده مصارع لا يستقيم أن يخرج من الحلبة إلا غالبا أو مغلوبا.! 

ولهذا ينحصر في زاوية الرد فيتوقف عقله عن إنتاج الجديد، وهذا حال العقل العربي اليوم مع أنه لم يكن بالأمس كذلك، ومن هنا زل الحداثيون في محاكمة العقل العربي والحكم عليه بإخضاعه لواقعه المعاصر، مع أن العقل الغربي كان على هذه الحال منذ عهد قريب في العصور الوسطى بل وفي العصر الفيكتوري وبعده بيسير.

فحين طرح مايكل فرداي فكرة الكهرومغناطيسية في تفسير الكهرباء أنـها طاقة غير مرئية، سخر منه علماء كامبريج الذين كانوا يعتقدون أنـها سائل يتدفق في أنبوب أو سلك.! 

وحين طرحت إميلي دوشاتليه رأيها في نقد رأي إسحاق نيوتن الذي أبداه في كتاب (المبادئ) أن طاقة الأشياء نتيجة عن حاصل ضرب كتلتها بتسارعها، فأثبتت هي أن طاقة الأجسام معادلة لمربع سرعتها، قوبل رأيها بالاستهجان ولم يتم اعتماده إلا بعد مائة عام.!

وتأمل الفرق في تناول العقل الغربي لمسألة الأرض المسطحة، وعدم دوران الأرض، تأمل تقبّله للرأي المخالف لما عليه ناسا، في حين تجد العقل العربي الحداثي يزدري القائل بمبدأ الأرض المسطحة أو عدم دورانـها حول الشمس وإن أقام عليه صاحبه الدليل، وينتقصه غاية الانتقاص، مع أن العقل الغربي الذي احترم قائله وافترض رأيه في حيز اللا محال، هو من قرر دوران الأرض وتكويرها في شكله العصري، وليس العقل العربي الحداثي الساخر.!

والذي ينبغي في نقد العقل العربي المعاصر وتجديده ليس هو ما يتخيله المبالغون في العقلنة من الحداثيين، من الثورة على التراث والتقاليد والانسلاخ منها بالكلية انسلاخ الحية من جلدها، فهذا الذي ينبغي على هؤلاء أن يوقنوا بأنه لن يكون مهما كتبوا وتعقلنوا، لأن الناس جُبلوا عليه وطُبعوا على الميل إليه، فعقلنتهم فيه كضرب في حديد بارد أو تخديش في الجلامد، والأمر كما قال الأديب إلياس فرحات:

يقولون لي صادِقْ فلانا فإنه ... أخو نجدةٍ يُرجى لساعةِ ضيقِ

فقلتُ لهم هذا صحيحٌ وإنما ... عدوُّ بلادي لن يكون صديقي 

فمتى يوقن هؤلاء أن الميل للدين فطرة وغريزة ومغالبتها حماقة، وأن تجديد العقل العربي ونقده بإحياء نظرية الإلزام المشترك في كنهه، وتأصيلها في قرارة نفسه، بحيث تنتفي عنه النظرة المدخلية الضيقة العقيمة التي هي أجرد من صَلْعة أو كزيادة الظليم.

وتأمل الجدل الذي ثار في نازلة كورونا بين طوائف أهل الإسلام، فهو مع كونه ينبئ بخير من جهة اشتراك جميع الطوائف على اختلاف مناهج عقولها في التفكير لإنتاج رأي أو تشخيص حال في توصيف هذا الوباء أو الحكم عليه، بما يعود بالنفع على مجتمعاتـهم. 

إلا أن نفس تنازعهم فيه ينبئ بخلل في التفكير العربي المعاصر من حيث إصرار المتنازعين المختلفين على تسفيه رأي مخالفه وتضليله وازدرائه، وحصره في الجانب الضلالي الظلامي، في الوقت الذي يخلع على نفسه العقلانية وإصابة الغرض من حيث أخطأه مخالفه.!

ولو تأمل وتروى لرأى في النزاع مندوحة وفي الرأي متسعا للنظر، عن نبز المخالف باللاعقلانية واللامنطقية، وكذا من أبعد في المثالية لو تأنى لوجد أن في مقولة الماديين نوع حق يتسع له النظر، فعلام تحجير الواسع، ولم لا يكون الشأن ما قاله الشافعي وهو سيد المناظرين: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب). 

والغريب أن بعض الماديين ممن يتعصب لإنكار التفسير المؤامراتي لوباء كورونا ويبالغ في التشنيع على من ينتحله، إذا خوطب بأن مفكراً غربيا يعتقد ذلك أحجم وأمسك، وهذا لاستشعاره النقص تجاه العقل الغربي بحيث تتوقف عقلنته التي لا تعمل إلا مع ما هو عربي.! 

فهذا البروفيسور البريطاني فيرنون كولمان وهو طبيب معروف وله تواليف تُرجمت إلى لغات، يعتقد أن كورونا مؤامرة عالمية تقودها الأمم المتحدة بحماية أمريكية، وأن هذه الدعاية عن خطورة الوباء مبالغ فيها جداً، فلم التشنيع على بعض الشيوخ أو المتدينين وهذا من كبار أطباء الغرب يرى رأيهم؟ أم هو مجرد الحساسية المفرطة من التدين واعتقاد متلازمة الجهل والدين والظلام، ونظيره في هذا الاتجاه ديفد أبك الذي أغرق في نظرية المؤامرة وأبعد النُّجعة حتى لقد ربط كورونا بالنظام العالمي الجديد وحكومة الظل الخفية.!

وليخاطب الحداثي نفسه وعقله قبل أن يسخر ممن يفسر الوباء بالمؤامرة، ويسأله: كيف أجيب أصحاب نظرية المؤامرة عن وقوع ذكر هذا الفايروس قبل أربعين عاما في رواية عيون الظلام، ويفسر اختلاق هذا الوباء بأنه للحد من التنين القادم بقوة تجاريا وعسكريا، أو أنه تمهيد لتغيير معادلة الصراع العالمي ونحو ذلك. 

ولا يجدي في الجواب أن تقول إنه لا غرابة فيه فإن الأوبئة ما زالت تضرب العالم وهي الحرب القادمة، فهذا لا يقنع غيرك فلا داعي لتوصيفه بالمخدوع، فهو قد شاهد أفلاما كورية تنبأت بكورونا باسمه قبل ظهوره بسنتين فما جوابك، فالمطلوب نحوه هو قليل من الاحترام.

والإشكال ليس في اعتقاد أن هذا الفايروس مؤامرة، فدولة بحجم الصين تعتقد ذلك، ولا في اعتقاد أنه مطور ومصنع لأن بعض الأطباء لا يُحيلونه بل يقررون جوازه واحتمالية صدق هذا الفرض، وإنما الإشكال في استيلاء النظرة المؤامراتية واستعلائها بحيث تؤثر سلبا على تعاطي المعتقِد مع خطورة الحدث فيتباطئ عن اتخاذ التدابير الوقائية منه. 

والمطلوب لتصحيح الفكر العربي أيضا أن تحتويه فكرة احترام الدليل والانقياد إليه بشجاعة يكتنفها تقدير المخالف، فنحن نتأرجح بين تقديس الشخوص واطراح النصوص، وما كان عليه العقل العربي قديما هو المزاوجة بين تقديس النصوص واحترام الشخوص، وقد بين ذلك ابن المبارك رحمه الله فإنه قال: (ليكن الذي تعتمد عليه الدليل، وخُذ من الرأي ما يفسّر لك الدليل).

وأما العقل العربي اليوم فالأمر عنده محكوم مسكون بنظرية الفعل ورد الفعل، فتجد غلاة المثاليين التقليديين يندفعون بقوة وعصبية لإثبات أن كورونا غضب إلهي وعقوبة ربانية، فيخرج عليهم غلاة الماديين والحداثيين برد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه، بتسفيه رأيهم والغلو في إنكار نظرية الغضب والعقاب الإلهي في ذلك، وأنه مجرد مرض طبعي، مع أن هذا لا يختص بأهل الإسلام، فحتى الكنيسة وعوام النصارى يصفونه باللعنة أي الغضب والعقاب والانتقام الإلهي.!

ولا أدري لم لا يجتمع الأمران مع كونـهما في افتراض التجويز العقلي ليسا بمتضادين ولا بمتناقضين؟ والواقع أنه لا تضاد بينهما ولا ازدحام في العقل بحيث لا يتسع إلا لأحدهما، وإنما الزحمة في عقول البعض قبل ورود هذا الرأي عليها، إنه من الصعب ملء كوب مملوء.! 

ولنضرب مثلا يقرب الأمر قد تجده إذا دخلت مصر، فإنك تستغرب من ظاهرة ازدحام السيارات عند فوهة الجسر وحافته، وترى في سيارتك من بعيد الجسرَ فارغاً، فإذا اقتربت وتأملت تبين لك أن لا ازدحام في الواقع، وإنما الزحمة في عقول بعض السائقين، فإنـهم إذا بلغوا حافة الجسر خطر في بال من هو عن يمين الجسر أن يرتقي الجسر وأن طريقه أن لا ينحرف من تحته، وخطر في بال من هو أمام الجسر أن لا يرتقيه وأن ينحرف من تحته، فيلتقي هؤلاء وهؤلاء عند فوهة الجسر ويزدحمون ويتضادون ويتقاطعون، فمن على الجسر يريد ذات اليمن، ومن عن يمينه يريد صعوده، والجسر فارغ لا ازدحام فيه.!

وأحكام المرور تقتضي أن يقرر السائق اتجاهه ويختار طريقه قبل بلوغ حافة الجسر بمائتي متر على الأقل تجنبا للازدحام، كما أن أحكام العقل تقتضي أن الدليلين والرأيين إذا كانا غير متضادين وأمكن اجتماعهما في حيز الجواز العقلي فلا مانع من اجتماعهما، وأي مانع من كون هذا الفايروس من جند الله مع كونه في نفس الأمر مرضا طبعيا.!

فمن يقول إنه من جند الله يعتمد على نصوص محترمة رويت في هذا المعنى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمى الجراد بجند الله وهذا منه، إن صح الحديث وقد حسنه الألباني وإن كان في تحسينه بحث ونظر، لكن صح موقوفا عن جابر عند البخاري في (تاريخه) وغيره، وروي عن علي وسلمان، ولا يحيله عقل أو شرع فقد أخبر الله بأنه يرسل الآيات لتخويف عباده، وهذا الفايروس قد أخاف العالم فأي مانع أن يطلق عليه أنه آية، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله يرسل النغف في أنوف يأجوج ومأجوج فيهلكهم، وهذا النغف من جنس الفايروسات وهو من جند الله كما يفيده ظاهر الخبر، فينتج بالقياس الحملي أن كورونا من جنده كالنغف.

وهذه دلائل يحترمها العاقل ولا يزدريها، وبه توقن أن من سأل: كيف يكون هذا الفايروس من جند الله والصين قد قضت عليه فهل قضت على جند الله؟ كان سؤاله فاسداً وهو عيب في التفكير فإن كونه من جند الله لا ينافي القضاء عليه، فهؤلاء جند الله من أتباع الرسل يتعرضون للقتل والغلبة ولم يمنع قتلهم من إطلاق وصف جند الله عليهم، وفي الحديث أن الريح والماء من جند الله، والريح تصد والماء يجف، وعادة الله جرت بخلق الشيء وضده في المخلوق الواحد دون تضاد أو منافاة، كالمرض مكروه وهو ينقي الجسم من السموم وقد يكون في الغذاء الطيب الداء، كما قال ابن الرومي:

عدوُّكَ من صديقك مُستفاد...فلا تستكثرنَّ من الصِّحابِ

فإن الداءَ أكثرُ ما تراه ...... يكون من الطعام أو الشرابِ

ومن يعارض هذا يقول أنا لا أجوز إطلاق الأسماء والألقاب إلا بتوقيف شرعي ولم يصح عندي أن الفايروس من جند الله أو من عقابه الإلهي، ولا أقيسه على الجراد لأن الأخبار لا يقاس عليها في أحد القولين لأهل الأصول، ورأيه محترم ومتسع في النظر.

لكن الذي لا يحترم ولا يقبل هو طرح رأي المخالف في ثوب ساخر كأنه مسرحية هزلية، كمن يقول إن من يقول بأن الفايروس غضب إلهي يصور الله كأنه عدو للبشرية! وهذا الساخر قد غبي عليه تاريخ الإنسانية وما فيه من حوادث تلف فيها ملايين البشر، ومثل من يسأل كيف يكون جنديا لله وهو يقضى عليه وقد مر بيان تـهافته.

ولعمري أي مانع شرعي أو عقلي استدعى بعض الكُتّاب الإنكار على من أطلق على هذا الفايروس وصف الآية التي يخوف الله بـها عباده، أو أنه عقوبة إلهية، فإن هذا من سنن الله الكونية الثابتة بنصوص الوحي في العموم، أن الله يرسل هذه الأوبئة لتخويف الناس وزجرهم بعد أن استولت عليهم الدنيا وظنوا أنـهم قادرون عليها، وتكبَّر طغاتـهم وتجبَّر مردتـهم، فتأمل كيف كفوا عن طغيانـهم وقبعوا في بيوتـهم، ومن لطائف الاتفاقات أن عدد حساب (كورونا) بالجُمَّل يساوي حساب كلمة (حجر أو جحر) وقد حجر هذا الوباء الناس في جحور بيوتـهم قهراً، ولقنهم درساً في الديموقراطية والمساواة فلم يميز بين سري ولا عامي.!

وأيضا فكان على هذا الكاتب الذي نقل عن صديق له حداثي مقالة ساخرة مضمونـها أن الله عدو البشر إذ يرسل عليهم الأوبئة عقابا، كان عليه قلب الرأي عليه، فيقول: بل هو تنبيه وتأنيب من الله لعباده عامة مؤمنهم وكافرهم بأنه خلق لكم الأرض لتعمروها بالخير والصلاح والتسامح، وأنتم ملأتم الأرض ظلما وجوراً وبغى قويكم على ضعيفكم، وتـهارشتم فيها تـهارش الحُمُر، أليس فيكم حليم عاقل يردع الأسد عن طغيانه بأهل الشام، أليس فيكم من يزجر إيران ومليشياتـها الهمجية عن سفك الدماء بالعراق والشام واليمن، وكذا ما يفعله الروس في سوريا والتحالف في اليمن وغيرهم، وهؤلاء الأيغور والروهينغا وكشمير ما ذنبهم حتى يبادوا بـهذه الوحشية، فأي مانع أيها العقلاء من كون هذا الفايروس مهلة من الله تعالى لإيقاظ العالم للسلام.!

ولم لا يكون عقوبة وغضبا إلهيا، وقد أمعن طغاة البشر في تسخير المعارف التي هداهم الله إليها، لمضادة الفطرة ومعاندة الخالق، بالترويج للمثلية الجنسية والاستنساخ البشري وتغيير خلق الله والتلاعب بالجينات الوراثية وهو محرم في كل الأديان فضلا عن الفطر والعقول السليمة.!

والشأن أن ينظر العاقل في نفس الدليل بقطع النظر عن قائله، والإشكال أن كثيراً من الحداثيين قد استحوذ عليهم كبر واستعلاء من استشعار العقلنة المفرطة فتراهم يحتقرون مقالات الشيوخ ويصفونـهم بالظلامية حتى قبل تدبرها، لا لبطلانـها بل لمجرد صدورها من ذي لحية وعمامة.! 

وبإزائهم شيوخ غلو في ازدراء الحداثيين حتى إنه ليسلقهم بلسان التضليل قبل النظر في قولهم ودليله، لا لفساده في النظر، بل لمجرد صدوره من فلان المتعلمن، ويضيع الحق بين الظلامي والضلالي.!

وكلاهما عِي والعاقل همته الدلائل لا القائل، وهذه الأقوال الميتافيزيقية في تفسير الوباء هي موجودة في عامة الأديان والطوائف، بل إن أهل التفسير يصنفونـها من جملة الإسرائيليات إن لم يحتملها عقل أو شرع، فهي موجودة في التراث الغربي قبل أن توجد في التراث العربي. 

كتفسير بعض السلف السكينةَ بأنـها كهيئة الريح، لها وجهان كوجه الهر أو الإنسان، وجناحان وذنب مثل ذنب الهر، حتى قال الشوكاني في (تفسيره): (هذه التفاسير المتناقضة لعلها وصلت إلى هؤلاء الأعلام من جهة اليهود أقمأهم الله، فجاؤوا بـهذه الأمور لقصد التلاعب بالمسلمين رضي الله عنهم والتشكيك عليهم، وانظر إلى جعلهم لها تارة حيوانا وتارة جماداً وتارة شيئا لا يُعقل، وهكذا كل منقول عن بني إسرائيل يتناقض ويشتمل على ما لا يُعقل في الغالب، ولا يصح أن يكون مثل هذه التفاسير المتناقضة مرويا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا رأيا رآه قائله، فهم أجل قدراً من التفسير بالرأي وبما لا مجال للاجتهاد فيه، إذا تقرر لك هذا عرفت أن الواجب الرجوع في مثل ذلك إلى معنى السكينة لغة وهو معروف ولا حاجة إلى ركوب هذه الأمور المتعسفة المتناقضة، فقد جعل الله عنها سعة).

وبإزائه تفسير الرعد والبرق بملك يزجر السحاب بسوط عند جمهور السلف، حتى ادعى القرطبي بطلان تفسير الحكماء وأهل الهيئة أنه اصطكاك أجرام الهواء وذراته واحتكاكها فينشأ عنه أثر كهرومغناطيسي يتولد عنه البرق وصوت الرعد، وهو الذي أطلق ابن عاشور لأجله بطلان تفسيره بملك يزجر السحاب، ولو أمعنت النظر لم تجد بين الرأيين منافاة فلا مانع أن يكون زجر السحاب بملك ينتج عن انزجاره هذا الاحتكاك الذي يتولد عنه الأثر الكهرومغناطيسي، ولا بأس أن لا تقنع بأحد القولين دون ازدراء واحتقار للقائل أو تسفيه لرأيه ما دام العقل والنظر يحتملانه.

وهكذا ما قيل في تفسير وباء كورونا، فمنه مقبول لا يحيله عقل وهو كونه آية للتخويف والزجر والعقوبة، وجنداً من جند الله، مع كونه مرضا طبائعيا، لقوله تعالى (وما يعلم جنود ربك إلا هو) ومنه مردود وهو التخريص الذي قاله بعض غلاة المثاليين أنه الناقور الذي قال الله (فإذا نقر في الناقور) فإنه غلط لا يشهد له نقل ولا لغة.

وتفسيره بجند الله محتمل كما مر لأن قوله (وما يعلم جنود ربك إلا هو) لا يدل على عدم علمهم مطلقا، فإن الآية من سلب العموم أي لا يعلمها كلها بل بعضها، أي علمها عدداً ونوعاً، فعموم مفهوم الحصر المستفاد من النكرة في سياق النفي لا يعم عموما شموليا، فلا يفيد أن غيره لا يعلم بعضهم، بل يفيد أن غيره لا يعلمهم كلهم نوعاً وعدداً. 

فتكون الآية محتملة لإفادة كون الفايروس من جنده، لأنه يفيد أن أنواعهم وأجناسهم كثيرة بحيث لا يحيط بعلمها إلا الله، فإذا قلت عن فايروس أنه منها فقد يكون منها لكثرتـهم نوعا وعدداً، فالمراد من الآية التكثير بحيث يصدق على أفراد كثيرين غير محصورين أنـها من جند الله، ولهذا ورد أن الريح منها والماء وغير ذلك، ولهذا قال تعالى (ولله جنود السماوات والأرض) لإفادة كثرتـهم وتنوعهم.

ومن لطائف الأخبار ما حكاه الحافظ ابن كثير في (تاريخه) أن القعقاع رضي الله عنه لحق الفيرزان حين فرَّ إلى همذان يوم فتح نـهاوند، فأدركه عند ثنية همذان، وقد أقبل منها بغال كثير وحُمُر تحمل عسلا، فلم يستطع الفيرزان صعودها منهم، وذلك لحينه فترجّل وتوغل في الجبل فأتبعه القعقاع حتى قتله، وقال المسلمون يومئذ: (إن لله جنوداً من عسل) ثم غنموا ذلك العسل وما خالطه من الأحمال، وسُميت تلك الثنية ثنية العسل.

والمقصود أن العقل العربي في تفكيره اليوم عقيم بسبب طغيان النظرة المادية على الماديين واضمحلال النظرة المثالية الروحية، وبنقيضهم من يغلو في التفسير الروحي المثالي ويغفل العوامل المادية، ولو ازدوج العقل والقلب عند الفريقين ما خرجوا في نزاعاتـهم إلى ضروب العداوة والسخرية والتضليل والتجهيل.

وثم أزمة ثالثة تستحوذ على العقل العربي فيتخاذل عن التعامل مع واقعه بواقعية، وهي عدم احترام التخصص وهجوم كل أحد على الفتيا والكلام في ما لا يحسنه، كطبيب يفتي ومفت يتطبب، وحدث يجزم بالمنع فيما لم يكلف نفسه عناء البحث فيه، بحيث يحاكم أفعال الناس إلى عدم علمه، ويجعل من عدم علمه علما حاكما، وهذا من جنس إعجاب كل ذي رأي برأيه وهو ما حذرنا منه المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم ونبهنا عليه.

وهذه العوامل الثلاثة متحدة في نفسها متلازمة في التأثير على العقل العربي المعاصر، فحين يخرج حدث على قناة يوتيوب أو الفيس فيكتب أو يتكلم في أمر العامة مسفّها رأي غيره مبالغا في التنفير عنه، أو يصف فعل العامة الذي له في الشرع دلائل يعرفها العلماء وغبيت عليه، فيندفع بكل جسارة في إطلاق البدعة على أعمالهم بمجرد عدم علمه، فهو خلل كبير في التفكير.

ومثال الأول تعصب بعض المشتغلين بالعلم للمنع من إغلاق المساجد بحيث رمى جمهور العلماء بالجهل بأصول الإسلام في فتيا إغلاق المساجد، وكان يمكنه أن يطرح رأيه للنقاش ويعرضه للبحث ونظر العلماء ويفوض قبوله أو عدم قبوله إلى قناعات غيره من المشتغلين بالعلم، دون هذه العصبية الهوجاء التي تنبئ عن ضيق عطن في التفكير دفعته إلى احتكار الحق والسنة وتوزيع ألقاب السوء على مخالفيه مع كونـهم أكثر وأرجح.!

ومثال الثاني حدث طالعنا في قناته اليوتيوبية بتبديع من خرج في الشوارع يكبر لزوال الوباء، وهذا الحدث لو جمعت فيديوهاته لم تجد فيها إلا تبديع الناس والتعسير عليهم بالمنع بمجرد عدم علمه، وليس معه إلا: (لم يرد) يطلقها دون فهم أو عقل أو ورع، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا وبكيتم كثيراً ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله) وهذا عام.

وصح نظير هذا التكبير في الحريق فقياسه على الوباء بجامع الخوف منه ورجاء زواله من أصح الأقيسة، وهو ثابت في شرع موسى وعيسى عليهما السلام وتقرر في الأصول أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما ينكره.

وقد فعله بعض السلف في الزلزال كأيفع الكلاعي وغيره حكاه أبو بكر الخلال، وأمر به عمر بن عبد العزيز، وقال ابن رجب: (وقد روي عن طائفة من علماء أهل الشام أنـهم كانوا يأمرون عند الزلزلة بالتوبة والاستغفار ويجتمعون لذلك، وربما وعظهم بعض علمائهم وأمرهم ونـهاهم، واستحسن ذلك الإمام) يعني أحمد، ونقله ابن عساكر عن الأوزاعي والوليد بن مسلم وإسحاق واستحسنه العبادي. 

وذكر أبو شامة المقدسي في (تاريخه) وقوع الزلزلة بالشام وخروج الناس فراراً منها إلى البساتين والصحراء فأقاموا فيها ليالي يسبحون ويهللون، ووقع أيام المؤيد بالله وباء فخرج الناس يدعون ويذكرون ولم ينكره العلماء بل حضروه، والوقائع في هذا كثيرة تدل على أن هذا الحدث لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، ويشدد على الناس بلا علم ويوقعهم في الحرج، وقد قال سفيان الثوري: (العلم الرخصة من ثقة فأما التشديد فيحسنه كل أحد). 

والزلزال محنة كمحنة كورونا فيستحسن له ما يستحسن للزلزال ولا فرق، ومثل هذه النوازل لا يحسن فيها كلام الفذ مهما اتسع علمه، بل الواجب أن يجمع لها العالمون والعابدون ولا يقضى فيها برأي واحد.

ومن غرائب الوقائع الكورونية التي تدل على مبلغ الخلل في العقل العربي، هجوم كثير من الخطباء الشرعيين والوعاظ أو من ليس بمختص على وصف دواء لعلاج كورونا، وليس هذا العجب بل العجب أنه يقطع بأنه شفاء منه، مع أن أهل الطب المتقدم لا يزالون في مبادئ البحث عن علاجه.!

وهذا استخفاف بعقول الناس وكان يسعه أن يقول إنه ينتفع به من نحو سعال أو زكام دون القطع بذلك، فهذا الشافعي وهو من أهل الطب لما ورد مصر رغب إليه أطباؤها أن يقرأ عليه بعضهم فصول بقراط، وقد قال: (ما رأيت أنفع للوباء من البنفسج يدهن بزيته) ولم يقطع به كهولاء، ولهذا خرج غلاة الحداثيين وكانوا كأنـهم ينتظرون هذا من هؤلاء الوعاظ، فكاعوا بالسخرية من النصوص التي لا ذنب لها وإنما الذنب في عقول بعض الوعاظ.

وقد ذكر ابن فضل الله في (تاريخه) أن العلامة صدر الدين بن المرحل كان يعرف الطب علما لا علاجا، فاتفق أن الأفرم حصل له سوء هضم فرتب له سُفوفا فاستعمله، فأفرطه الإسهال، فأراد مماليك الأفرم قتْلَ صدر الدين، وتدارك أمين الدين سليمان الرئيس الأمرَ فعالجه برفق إلى أن نصل عن قرب، فأنكر الأفرم على مماليكه ما فعلوه مع صدر الدين، وعاتبه بلطف وقال له: كدتُ أروح معك غلطا، وقال له أمير العرب: يا شيخ صدر الدين، أقبل على فقهك ودع الطبَّ، فإن غلطَ المفتي يُستدرك، وغلطَ الطبيب لا يُستدرك، فاستصوب الأفرمُ مقالته، وخجل صدر الدين.

ومن هذا العطن الفكري الضيق المستولي على العقل العربي المعاصر، رمي بعض الدكاترة الشرعيين من أفتى بإغلاق المساجد وهم جمهور العلماء بالتبعية للحكام، ورمى بعض من أقام الجمعة والجماعة في صور خاصة قصد بـها تحصيل الواجب مهما أمكن، بعدم استيعاب حقيقة الفايروس وكيفية انتقاله! وهو يعلم أن كثيراً من العلماء المفتين بالإغلاق لا يتبعون سلطة معينة، وهو نفسه قد رمى العقل العربي المعاصر بأنه في أزمة، ثم وقع هو في أزمة من أزماته الخفية وهي الحكم بالاستقراء الناقص، فإنه حكم على أغلب العلماء بالتبعية للسلطات بمجرد تبعية بعضهم، وهو حكم قاصر.!

ثم اندفع يرمي عامة العلماء بغياب ما أسماه فقه الاستشراف عنهم وغياب فقه الواقع، مع أن هذا الوباء خطر داهم عجز عن استشرافه والتعامل مع واقعه دول كبرى كأمريكا وأوربا. 

وهذه أزمة أخرى وقعت لعقله وهي أنه انحدر بعنفوان في كيل التهم لجمهور علماء الأمة من حيث برَّأ نفسه منها بلسان حال مقاله، دون أن يطرح لهم الحل، والعجب من رميه لهم بغياب هذا مع أنـهم أفتوا بالإغلاق فماذا يريد ليفقه العلماء واقعهم ويستشرفوه.؟!

وهذا عجيب منه، فمن أفتى بالإغلاق رماه بالتبعية للسلطات الحاكمة، ومن لم يفتِ به وحاول تحصيل الفرض بقدر الممكن رماه باتباع صور مضحكة، والجميع عنده لا يفقه الواقع ولا يستشرفه، فماذا يصنعون حتى يقتنع هذا الدكتور الفاضل.؟!

ومع أنه طرح في مقاله ما هو نافع في الجملة، لكن استبداده بالبحث واندفاعه في التغليظ والتغليط والتهويل المبالغ فيه عكَّر صفوَ بحثه وأوقعه في خلل عقلي لم يتنبه له. 

ونظير هذا إفتاء بعض فضلاء العصر بصلاة الجمعة في البيوت، فنازعه غيره بالمنع لفوات المقصود، ولكنك تجد في المنازع من شنع وأقذع دون سبب، وكان يمكنه بحث المسألة معه في نطاق المنهج العلمي الاستدلالي، ثم يدع القناعة للناس.

وهذا المفتي قد تمسك بأن الجمعة في البيوت مذهب للحنفية وابن تيمية وغلط فيما حرره من مذاهبهم، وتعلق بما علقه البخاري عن أنس أنه ربما صلى الجمعة بأهله في قصره بالبصرة، وهذا فيه بحث من جهة أن قصره كان بظاهر البصرة وليس في المصر، وكان قد أضر فاحتاج للصلاة معهم فيه لبعده عن جامع المصر، أشبه الصلاة في الفلاة وهو مذهب مالك وبعض السلف، وهذا خارج عن موضع البحث. 

وأيضا فأثر أنس مندرس متروك الظاهر لم يجر عليه العمل ولم يقل أحد به على وجهه، وقد تقرر في الأصول منع العمل بالمذاهب المندرسة كجواز ربا الفضل والمتعة ونحوها، وهكذا تعلقه بفتيا الزهري لزريق بن حكيم في جواز الجمعة بأرضه مع عماله السودان، لا وجه له لأنه في الفلوات خارج المصر وهو جائز وخارج عن موضع النزاع. 

وقد جمّع أسعد بن زرارة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفر من الأنصار في حرة بني بياضة عند ماء الخضمات، وهذا أيضا خارج عن محل البحث ولا أعلم جواز الجمعة في البيوت إلا في قول للزيدية حكاه الريمي في (المعاني البديعة) والذي أراه المنع لفوات المقصود لكن لا أنكر على من فعله، وقد قال العلامة محنض بن أمين في باب الجمعة من المباحث الفقهية:

وإنْ تفتْ قوما بدون عذرِ ... جمعةُ لم يُجمّعوا في الظهرِ

وليُجمعوا إنْ عُذروا في ظهرهمْ...وليُظهروا عند ظهور عذرهمْ

وليقتفوا إذا أرادوا الجمعَ في ... ظهرهمُ إنْ ذلك العذرُ خفي

ولكن يسوغ إقامة الجمع في المساجد إن أمن من ضرر عدوى الوباء في القرى والأرياف المغلقة ولا حاجة لإغلاق المساجد هناك، ويمكن كذلك إقامتها لبعض المصالح الحكومية الخدمية التي تقرر الدول بقاءها مفتوحة لحاجة الناس وفيها مصليات كمصالح مصر، أو في سطوحها أو أفنيتها، ويمكن إقامتها أيضا لأهل عمارة أو مسكن مغلق يأمن من فيه من العدوى، وبـهذا يقومون عن الأمة بواجب الفرض الكفائي. 

وإن لم تقم فلا حرج احتياطا وعند أبي داود مرفوعا: (من ترك ثلاث جمع من غير عذر طبع على النفاق) وتقييده بالعذر ظاهر في جواز تركها لعذر وحاجة لثلاثة أيام وأكثر بحسب الحاجة والضرورة التي تقدر بقدرها، وقد ترك بعض السلف الجمعات خلف ولاة الجور وهو مذهب للحسن بن صالح بن حي والعترة الطاهرة، وترك الناس الصلاة بالمسجد النبوي ثلاثة أيام يوم الحرة، لم يؤذن فيه ولم يُقم ولا يشهد الصلاة إلا ابن المسيب، ووقع ذلك في حوادث كثيرة لأجل خوف عدو أو باء كما بسطناه في جزء (النقض على المطيري) والله أعلم.

ونظيره تنازعهم في القنوت للوباء، وقد منعه الحنابلة وجوزه الجمهور كالشافعية والحنفية فلا مانع أن يعمل كل بمذهبه دون إنكار وتشنيع، فمن منع اعتبر أصل عدم الورود عن السلف، ومن جوز اتبع القياس والعموم، ولا إنكار في مسائل الخلاف التي لها في النظر والأثر حظ. 

وهذا آخر ما قصدت التنبيه عليه من مواقع الخلل والزلل في التفكير في النوازل، بقصد النصح لا الفضح، فقد طالعت كثيراً مما كتبه الناس في هذه النازلة، وانتفعت به لكن رأيت من الواجب التنبيه على ذلك، وبالله تعالى التوفيق.

اللهم لك الحمد كما تحب وترضى، صل على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيراً.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين