همة وعزيمة ومضاء

أيها الأخ الحاج الذي أكرمه الله تعالى بالحج وسهّله عليه!..  تذكَّر وأنت الآن تستعد للأوبةِ إلى بلدك بعد إذ أدّيتَ هذه الطاعة العظيمة، أن مسؤوليتك التي يحتّمها عليك انتماؤك للإسلام، ويجددُ عهدك بها هذا الحج الذي منه فرغت، كبيرةٌ حقاً، بالغة الخطورة، فأنت مدعو بهذه المسؤولية الشريفة، إلى إثبات صدق ولائك للإسلام، وجديّةِ انتمائك إليه، وحسنِ وعيك للأبعاد الكبيرة للحج المبرور الذي نرجو أن تكونَ قد رُزِقْتَهُ في طاعتك هذه.

إنك -من حيث أنت مسلم- كنزٌ من الفضائل والمكرمات، والاستعداداتِ الكبيرة، والمطامحِ الضخمة، والآمالِ العراض، لذلك ما فقد العقلاءُ أصحابُ البصيرةِ النافذةِ ثقتهم بك قط، مهما بدا على سطحك الخارجي أنك قد سُؤْتَ وضعفتَ وأخلدتَ إلى التراب، وطابَ لك العيشُ الكليل الكئيب، وحياةُ الدونِ والهوانِ والعجز، ذلك أنهم على يقينٍ كبيرٍ كبير أن دفقةً واحدةً فقط من عطايا الإيمان كفيلةٌ أن تطهّرَك من الشوائب والرانِ، والإخلادِ والقعود، والكسلِ والذلة، وترفعَك إلى آفاق المسؤولية المشرّفة الكبيرة، مسؤوليةِ الهدايةِ والقوامة، والوصايةِ والإرشاد، والإبلاغِ المستمر الذي لا يتوقف بحال.

والمسلم -من حيث هو مسلمٌ- يَدِينُ بهذا الهديِ الرباني، راضياً بالله تعالى ربّاً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وبالإسلامِ ديناً، واعياً حقيقةَ هذا الرضى وأبعادَه وتكاليفَه، مستعداً للوفاءِ بلوازمه ونتائجه، هو خيرُ ما في الحياة، وأجملُ ما في الحياة، وأصدقُ ما في الحياة، هو في ضمير الأكوان حبٌّ ورجاء، وفي قلوب الناس أملٌ وسناء، وفي أفئدةِ الحيارى والتائهين منارةٌ للهدايةِ والإنقاذ، ومرفأٌ أمينٌ صادق، وحادٍ لا يكذب، وهادٍ لا يضل، وقائدٌ لا يخون، وواحةٌ مخضلَّةٌ خضراء، ناضرةٌ عاطرة، يستظلُّ بها مَنْ أضناهم السهاد في ليلِ الجاهلية، وفتك بهم السُرى الموصول في هجيرِ الصحراء، صحراء الشكِّ والريبة، والفسادِ والانحراف، والتيهِ الذي يَنتهي إلى تيه، والضياعِ الذي يُفضي إلى ضياع، والقلقِ والظنون، صحراءِ الشرودِ عن مهج الله عز وجل، والخَبْطِ الأحمق الأرعن وراءَ مناهجِ الطاغوت التي لا تنبت إلا الشوكَ والقتاد، والشجى والأحزان، والصابَ والعلقم، والحنظلَ المُرَّ الكريه، وشقاءَ الإنسانِ في دينه ودنياه على السواء.

والمسلم -من حيث هو مسلم- يعي حقيقةَ إسلامهِ، وينهضُ بصدقٍ للوفاء بلوازم هذا الوعي، هو من قبلُ ومن بعد، وفي قديمٍ وحديثٍ ومستقبل، وفي كل العصورِ والأمكنةِ والظروف، بقيةُ الخيرِ في العالم ما كانَ عالم، وهو في عصرِنا اليوم، العاتي المتمرد، الجافي الخؤون، الذي فشت فيه المادة حتى عُبِدَت من دون الله تعالى في كثيرٍ من البلدان، وانتشر فيه دمارُ الإنسان حتى صار جزءاً لازماً من عطاياه النكِدة الوخيمة، هو في هذا العصر موئلُ النور، وبارقةُ الأمل، وبُشرى الإنقاذ.

حذارِ حذارِ أن تنسى أيها المسلم دورك!.. وحذارِ أن تُجاريَ عصرك، ما حَسُنَ منه وما ساء!.. بل احتفظ بشخصيتك، واشمخ بإيمانك، واستعلِ بقرآنك، وارتفع وافخر بدورك وريادتك، وقيادتك الآخرين، وسِرْ في دربك المباركة هادياً للخير، داعياً للفضيلة، مبشّراً بالنور، محذّراً من الضلال.

كم وقف الغزاةُ على بابك!.. وكم اقتحم العادون دارك!.. وكم فتكَ بك الأفّاكون والطغاة!.. وكم اجتاحت بلادك جيوش الظالمين!.. لكنك لم تلبث أن قهرتَهم، وطهَّرت أرضك من رجسِهم، وسَمَوْتَ وعلَوْت، وطَهُرْتَ وزكَوْت، فإذا بالغزاة والطغاة والعادين والأفّاكين والظلمة خبرٌ من الأخبار، وروايةٌ في كتب التاريخ، وإلّا فأين الصليبيونَ والتتار!؟ وأين جيوشُ ما سُمِّي بالاستعمار!؟ ولم يكن فيه إلا الخراب والدمار.

لقد كنتَ -أيها المسلم- تنتصرُ في هذه المواقع كلِّها، لأنك كنتَ تعودُ إلى معينِ قوتِكَ الذي لا ينضب، ومصدرِ طاقتك التي لا تتوقف، وهو دِينكَ وقرآنك، فاستمسكْ به، واحرصْ عليه، واهتدِ بنوره، وتشبّث بعروتِه، واعملْ بمقتضى توجيهه؛ يكنْ لك الفوزُ من جديد، والظفرُ من جديد، والغلبةُ والظهور، والنصرُ المؤزّر الكبير.

تذكّرْ ذلك أيها المسلم الذي أكرمه الله تعالى بالحج، تذكّرْ ذلك وأنت تؤوبُ إلى وطنك، وكنْ على المستوى الذي يوجبُه عليك إسلامُك، والذي يجددُ الحج تذكيرَك به.

إنَّ أمتك المسلمة اليوم تواجهُ تحدياتٍ مسعورةً منهومة، تحيط بها من كل مكان، وإن البشريةَ اليوم تتردّى في مستنقعِ الضياع والجهالات والتفاهات، وإن الحضارةَ اليوم أفلستْ وانحطّت وباتت في الاحتضار، والأمل ينعقدُ عليك وحدك أيها المسلم، فأنت المهتدي الوحيد والآخرون ضائعون، فَعُدْ إلى إسلامك، وَابْنِ عليه مجتمعَك ودولتَك، تنقذْ نفسك وتنقذْ أمتك، ثم انطلق بعد ذلك لإنقاذِ البشريةِ التائهة والحضارةِ البائسة من المصيرِ الرهيب.

*****

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين