هل يضل العالِم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.

 

العالم بشر

يصيب ويُخطئ

وقد يخطئ العالم ثم يتبين له أنه قد أخطأ، وقد يُبيّن له من طرفٍ آخر أنه قد أخطأ فيتحول في كلتا الحالين إلى الصواب

لكن إن بقي العالم على خطئه وتعذّر إقناعه بأنه على خطأ واستمر في رؤية الخطأ الذي عليه هو الصواب فإنه في هذه الحال أحد اثنين ـ والله أعلم ـ:

إما ان يكون من علماء السوء وعلماء الدنيا الذين هم رقيقو الديانة بعيدون عن التقوى ورقة الديانة والبعد عن التقوى حال مسيطرة تظهر على صاحبها في حياته كلها ولا يقتصر ظهورها ـ بل هو يندر ـ في المسائل المتعلقة بالعلم

وإما أن يكون هذا العالم على ضلال نعم... إن العالم قد يضلّ أيضاً وقد يكون سبباً في إضلال غيره والضلال: إرادة الحق مع عدم إصابته والإصرار على مجانبة الحق لأنه يرى الخطأ صواباً والباطل حقاً عن اعتقاد بذلك وقناعة

والضلال قد يكون عاماً وقد يكون خاصاً في أمرٍ أو أمور والإنصاف يتطلب أن يُحصر وصف الضلال فيما ضلّ به العالم وأن لا يُعمّم على حالها كلها وأن لا يُصادر علمُ العالم الذي ضلّ في أمرٍ ما بالكلية ويُجرّد من منزلته كلياً فذلك ظلمٌ وقد أمر الله تعالى بالعدل

ويلزم حملُ كلام وفعل ـ العالم المشهود له بالرسوخ في العلم، والصلاح في الحال ـ على الخير ما استُطيع إلى ذلك سبيل ذكر الذهبي في «السير» [16/ 96] أنهم أنكروا على أبي حاتم ابن حبان قوله: النبوة: العلم والعمل، فحكموا عليه بالزندقة، هجر، وكتب فيه إلى الخليفة، فكتب بقتله.

قال الذهبي: هذه حكاية غريبة، وابن حبان فمن كبار الأئمة، ولسنا ندعي فيه العصمة من الخطأ، لكن هذه الكلمة التي أطلقها، قد يطلقها المسلم، ويطلقها الزنديق الفيلسوف، فإطلاق المسلم لها لا ينبغي، لكن يعتذر عنه، فنقول: لم يرد حصر المبتدأ في الخبر، ونظير ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «الحج عرفة» ومعلوم أن الحاج لا يصير بمجرد الوقوف بعرفة حاجا، بل بقي عليه فروض وواجبات، وإنما ذكر مهم الحج.

وكذا هذا ذكر مهم النبوة، إذ من أكمل صفات النبي كمال العلم والعمل، فلا يكون أحد نبيا إلا بوجودهما، وليس كل من برز فيهما نبيا، لأن النبوة موهبة من الحق - تعالى -، لا حيلة للعبد في اكتسابها، بل بها يتولد العلم اللدني والعمل الصالح.

وأما الفيلسوف فيقول: النبوة مكتسبة ينتجها العلم والعمل، فهذا كفر، ولا يريده أبو حاتم أصلا، وحاشاه. ا.هـ.

وذكر الذهبي [18/ 540] أنه لما تكلم أبو الوليد الباجي في حديث الكتابة يوم الحديبية الذي في«صحيح البخاري». قال بظاهر لفظه، فأنكر عليه الفقيه أبو بكر بن الصائغ، وكفّره بإجازته الكتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي الأمي، وأنه تكذيب للقرآن.

فتكلم في ذلك من لم يفهم الكلام، حتى أطلقوا عليه الفتنة، وقبحوا عند العامة ما أتى به، وتكلم به خطباؤهم في الجمع، وقال شاعرهم:

برئت ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال: إن رسول الله قد كتبا

فصنف القاضي أبو الوليد «رسالة» بين فيها أن ذلك غير قادح في المعجزة، فرجع بها جماعة.

قلت: يجوز على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب اسمه ليس إلا، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا، وما من كتب اسمه من الأمراء والولاة إدمانا للعلامة يعد كاتبا، فالحكم للغالب لا لما ندر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب». أي: لأن أكثرهم كذلك، وقد كان فيهم الكتبة قليلا. وقال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم} [الجمعة:2] .

فقوله - عليه الصلاة والسلام -: «لانحسب» حق، ومع هذا فكان يعرف السنين والحساب، وقسم الفيء، وقسمة المواريث بالحساب العربي الفطري لا بحساب القبط ولا الجبر والمقابلة، بأبي هو ونفسي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان سيد الأذكياء، ويبعد في العادة أن الذكي يملي الوحي وكتب الملوك وغير ذلك على كتابه، ويرى اسمه الشريف في خاتمه، ولا يعرف هيئة ذلك مع الطول، ولا يخرج بذلك عن أميته، وبعض العلماء عد ما كتبه يوم الحديبية من معجزاته، لكونه لا يعرف الكتابة وكتب، فإن قيل: لا يجوز عليه أن يكتب، فلو كتب؛ لارتاب مبطل، ولقال: كان يحسن الخط، ونظر في كتب الأولين.

قلنا: ما كتب خطا كثيرا حتى يرتاب به المبطلون، بل قد يقال: لو قال مع طول مدة كتابة الكتاب بين يديه: لا أعرف أن أكتب اسمي الذي في خاتمي، لارتاب المبطلون أيضا، ولقالوا: هو غاية في الذكاء، فكيف لا يعرف ذلك؟ بل عرفه، وقال: لا أعرف. فكان يكون ارتيابهم أكثر وأبلغ في إنكاره، والله أعلم. انتهى كلام الذهبي رحمه الله.

والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين