هل كان الأفغاني ومحمد عبده على عقائد الماسونية الضالة؟

تعدّ تهمة الماسونية من أشدِّ الشبهات التي دأب المخالفون على لصقها بالشيخين، ابتداءً بيوسف النبهاني ومحمد محمد حسين، وانتهاءً بفهد الرومي وسفر الحوالي وآيات عرابي.

وممَّن ردّد هذه الشبهة بقوَّة الأستاذ غازي التوبة، حيث ندَّد في مقال له بانضمام الشيخين إلى الماسونية، ولم يقبل الاعتذار عنهما بأنَّ الماسونية لم تكن واضحة الأهداف في ذلك الزمان.

وفي الحقيقة، فإن التوبة في مقاله قد جانب نهج الإنصاف في أمور:

الأول: أنه لم يذكر أنَّ الماسونية كانت جمعية مُرخَّصة في الدولة العثمانية آنذاك، وأنَّ للماسونية تاريخاً عريقاً مع تلك الدولة، فلو كان يظهر من أهدافها هدم الأديان والتآمر على الاسلام لما سُمح لها بالعمل في دولة الخلافة أصلا.

فقد ذكر الدكتور أحمد النعيمي أنَّ الماسونية أسّست جمعية لها في استانبول عام 1717 في عهد السلطان أحمد الثالث، وبقيت عاملة إلى أن أُغلقت بعد قيام الثورة الفرنسية (1).

وقد انتسب الى تلك الجمعية كبار الشخصيات في الدولة العثمانية، ومنهم الصدر الأعظم إبراهيم باشا، الذي رأى في الماسونية تجديداً للأفكار واتِّساقاً مع نهج الاصلاح، وقام بعض المنتسبين الى الجمعية بإدخال أول مطبعة رسمية الى الدولة العثمانية (2).

وفي عهد السلطان محمود الثاني أعيد بعض المحافل الماسونية في استانبول وأزمير، ثم امتدت الى البلدان العربية، وانتسب لها كثير من كبراء الدولة العثمانية، مثل مدحت باشا ورشيد باشا، وبقيت مرخَّصة إلى أن حظرها السلطان عبد الحميد عام 1886.

وعليه، فإن كل اتهام للأفغاني بمعرفة الأهداف السريَّة للماسونية آنذاك هو اتِّهام يطال الدولة العثمانية نفسها التي رخَّصتها وسمحت لها بالعمل العلني.

وكل جواب للمدافعين عن الدولة العثمانية في ذلك فهو يطال الأفغاني من بابٍ أولى.

الأمر الثاني: أنَّ دخول الأفغاني للماسونية كان بهدف إصلاحها من الداخل وتطويعها لخدمة الشعب، وكان ذلك اغترارأ منه بشعاراتها البرَّاقة، فلم يدعُ يومًا إلى عقائدهم الباطلة.

فقد قال الأفغاني نفسه : (أول ما شوَّفني للعمل في بناية الأحرار عنوان كبير: حرية ، مساواة، إخاء، غرض منفعة الإنسان، سعي وراء دك صروح الظلم)(3).

فلما رآهم بعكس ذلك استقال من المحفل الاسكتلندي، وأنشأ محفلاً وطنياً، وكان من إنجازات ذلك المحفل: الدعوة الى المساواة بين الضباط والموظفين المصريين والشراكسة في الإجازات والرواتب، والعمل على إقالة الخديوي إسماعيل الذي اشتهر بالسرف والتبذير والاستبداد، وإحلال الخديوي توفيق مكانه.

لذلك، فقد برّأ المؤرِّخون المنصفون الأفغاني من عقائد الماسونية، فقد قال أنور الجندي : (والقول بأن جمال الدين بهذا النحو كان ماسونياً في حاجة إلى أناة وبُعد نظر وتجرُّد من الإسراف في تحميل الأمور ما لا تحتمل عن الإسراف، فهو قد ظن في الماسونية ما كان يظنه الكثيرون أنها مؤسَّسة عدل، فلما التمس ذلك لديها خيَّبت ظنه فأنشأ محفله الخاص الذي لم يطل به المدى)(4).

وقال الأب لويس شيخو وهو من كبار المناوئين للماسون: (وكان الماسون قصدوا أن يضموا على الطريقة نفسها إلى جماعتهم السيد جمال الدين الأفغاني، إلا أنه عرف غايتهم ولم يرضَ أن يكون كطعم لسنارتهم يصطادون باسمه السذج ففارقهم بعد زمان)(5).

الأمر الثالث: أما بالنسبة للشيخ محمد عبده فالأمر أجلى وأوضح، فإن الشيخ آثر مفارقتهم والفكاك عنهم، بل مضى في محاربتهم والتنفير منهم، وهذا ما لم يتفطَّن له الأخ التوبة، والتوبة تجبّ الحوبة، إن كان ثمة حوبة.

وفي ذلك يقول السيد رشيد رضا: (إنَّ الأستاذ الإمام ترك الماسونية من زمن طويل، وقد أكثر أبناؤها من دعوته إلى محافلها بعد رجوعه من النَّفي إلى مصر فلم يجب، وأهدوا إليه وساماً فلم يقبله.... وأخبرني بأن دخوله مع السيد فيها كان لغرض سياسيّ اجتماعي، وأنه قد تركها من سنين، ولن يعود إليها).

ويضيف رشيد رضا في أعمال محمد عبده ضد الماسونية: (واخبرني أنه أرشد مرةً أحد ولاة بيروت إلى إبطال محفل ماسوني علم أنه يكيد للدولة العلية بإيعاز من بعض الدول الأوروبية، فهاب ذلك الوالي وظن أنه فوق قدرته، ولكن الفقيد رحمه الله تعالى هداه السبيل إلى ذلك، وشدّ من عزيمته ففعل).

ويقصّ رشيد رضا سبب انسحاب محمد عبده والأفغاني من المحفل الاسكتلندي فيقول: (كان مبدأ انسحابه مع السيد جمال الدين من الماسونية عندما جاء إلى مصر رئيس الشرق الأعظم الانجليزي وهو يومئذ ولي العهد للدولة الانجليزية فاجتمعت به المحافل الماسونية حفاوة، وذكر أحد رؤسائها ولي العهد بهذا اللقب، فاعترض السيد جمال الدين وقال: إنه لا يَسمح بأن يُحتفل بأحد على أنه ولي العهد لدولةٍ من الدول، لا سيما الدولة الإنجليزية التي من وصفها كيت وكيت، وليس لها فضلٌ على الجمعية، إلخ ما قاله، ولا أذكر منه إلا مثل هذا الإجمال، فردّ عليه بعض رؤساء المحافل، وبعد مناقشة انسحب من الماسونية هو وخواصّ مريديه)(6).

ومن هذا البيان يتبين أن تهمة الماسونية من التهم التي حمّلها المناوؤون للشيخين ما لا تحتمل، وأن الماسونية لم تكن في ذلك العهد على ما نراه اليوم من الانكشاف والوضوح.

-------------

(1) اليهود والدولة العثمانية ص176

(2) تغلغل الماسونية في الدولة العثمانية، د. عصمت عبد القادر، ص212

(3) خاطرات الأفغاني ص40

(4) أعلام وحملة أقلام ص108

(5) السر المصون في شيعة الفرمسون ص42.

(6) مجلة المنار 8/402-403