هل رأيتم مصعب بن عمير..؟!  الشهيد أسامة جبه جي

 

               
   إن لم تكونوا رأيتموه,فقد رأيته أنا..لا في المنام أو في عالم الأرواح كما يخطر في البال أول وهلة,بل رأيته رأي العين ..!!
   هو الصحابي الشاب الذي عزف عن الدنيا وزينتها وهاجر إلى الله..ذلكم الفتى المكي الذي اشتهر بالجمال والغنى وتميز عن شباب مكة كلهم..كانت طرق مكة تعرفه و تستدل عليه بعطره الفواح,لكنه في يوم وليلة تغير..وفي معركة أحد حمل الراية,وحمل عليه المشركون فقطعوا يده التي تمسك بالراية فتناولها بيده الثانية فقطعوها فاعتنقها اعتناقاً,ثم هوى إلى الأرض بجسده الطاهر المبضع المقطع لكنه روحه التواقة المشتاقة علت إلى السماء إلى عالم الملكوت عالم الأسرار والأنوار حيث الملأ الأعلى..ووُضع مصعب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه أبكاه..لقد أبكاه وأبكاه..لقد رآه في بردة رثة فقال مخاطباً له_والدموع شرقت في عينيه_:كنت في مكة أحسن الناس لِمة,وأجملهم ثوباً,وأطيبهم عطراً...واليوم أنت في بردة خلقة..!
 
   ولكن لعلكم تقولون:كيف رأيت مصعباً ؟! وأنى يكون ذلك ؟!.وهل ما تقوله أحجية تختبرنا بها ؟!..
    لقد رأيت مصعباً في فتيان الثورة وشبابها الذي كان بعضهم أكثر أناقة وأروح عطراً من مصعب لكنهم في طرفة تحولوا من هذه الحال إلى حال أخرى لا يبتغون فيها إلا الله والدار الآخرة..لقد هبط على قلوبهم من حب الله ما أسكرهم وأنساهم أنفسهم,فأطار هذا الحب أفئدتهم إلى بارئها ..
 
   غنى بهم حادي الأحبة في الدجى....فأطار منهم أنفساً وقلوبا
   فأراد مقــــطــوع الجنـــــاح بثيــنــة ......وهمُ أرادوا الواحد المطلوبا
 
   لقد رأيت مصعباً في أسامة الشهيد الذي عرفته صغيراً ولما ينبت الشعر في وجهه,كان صبيح الوجه أثيراً لدى والديه يلهو أمامنا ويلعب شأن الأطفال في سنه..وشب أسامة عن الطوق وغدا فتى يلبس أحسن الثياب ويتعطر بأطيب عطر..ولم يكن يدري ولا ندري أن قادمات الأيام ستغير من حاله..وبدأت الثورة,فكان أسامة أول من خاض غمارها وأول من رفع راياتها الخفاقة..ومن هذه الساعة بدأت الهجرة إلى الله والدار الآخرة,واشمأزت النفس الكريمة من الملذات والدنيا ومتاعها وزينتها ..
 
 واعتقل الشاب اليافع ومكث في السجن بضعة أشهر ولاقى ما لاقى من صنوف الأذى والتعذيب كسائر إخوانه..ثم خرج من السجن,غير أن نفوس هؤلاء لا تضعف ولا تستكين بمرارة العذاب والتنكيل,بل يكون ذلك وقوداً لها يؤججها تأجيجاً فتغدو كتلة من نور ونار..تضيء بنورها السبيل للمؤمنين المجاهدين,وتلفح بنارها وجوه المجرمين..وهل استكان بلال بعد العذاب؟! وهل استسلم حبيب بن زيد لمسيلمة الكذاب؟!
 
   أسامة لم يخرج من السجن ليستريح ويتنعم,فدون ذلك يا أيها المعذبون المجرمون خرط القتاد..أرأيتم إلى الشمس إن استطعتم أن تنالوا منها فلن تنالوا من عزيمة أسامة وأترابه ..!
 
   أسامة وإخوانه المجاهدون_ يا حاقدون_ أبدان وأجسام في أعينكم تمشي على الأرض فلكم أن تسيموها سوء العذاب بحقدكم وإجرامكم لكن نسيتم وجهلتم أن هذه الأبدان صارت أرواحاً ملائكية..صارت معاني في الإيمان والحب والإخلاص والتضحية والبر..فكيف يتأتى لأيديكم القذرة أن تنال منها..لئن تمكنتم من الجسد فمزقتموه وقطعتموه لا تصلون أبداً لهذه الأرواح السماوية.... يا أنجس أبدان و أذل نفوس ..يا من أشفق على العباد وبكى لهم أعداؤهم اليهود لما رأى من فتككم وتنكيلكم ..!
 
   أسامة أمسك بسلاحه,ليكون في زمرة المجاهدين,فترك بيته وراحته وفراشه الوثير والأرائك ليخذ من الجبال و البساتين مأوى ومسكناً..فربما افترش الثرى والتحف صفحة السماء..ولعل النجوم أخذت تناجيه في سكون الليل المظلم ويناجيها..لم غادرت بيتك و أرهقت نفسك يا أسامة؟! لأني حب الله والجهاد في سبيله أنساني نفسي وأهلي وكل دنياي..فأنا وإن كنت في الأرض لكنني بحب لبارئي وشوقي إليه أكاد انتهي إليك أيتها النجوم بل أتجاوزك فأنا العبد الهائم على وجهه في سبيل الله..ألم تسمعي أيتها النجوم بالفتية الذين آمنوا..إنهم فتية الكهف الذين خلّفوا وراءهم الدنيا من أجل إيمانهم وعقيدتهم..لقد كانوا بإيمانهم أسعد من في الأرض في زمانهم..انطلقوا في الجبال يغنون أناشيد الإيمان والحب..عرفوا الله فهان عليهم كل شيء(إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى*وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض..)..هذه الكلمة التي قالوها أغلى وأجمل وأبقى من الدنيا وما فيها..إنها أنشودة الجبال المسبحة والطير..!
   النجوم صامتة تهتز طرباً لهذا الكلام الذي يقوله هذ الإنسان..ثم أطرقت وقالت يا أسامة هبنا ومضة من نورك وإيمانك..فنورك طغى على نورنا..فأنت وصحبك نجوم الأرض..ونجوم الأرض يراها أهل السماء..وشتان بين من يراه أهل الأرض ومن يراه أهل السماء..
 
   وانبلج الليل عن فجر جديد قطع الحديث بين أسامة والنجوم..الله أكبر الله أكبر..نادى المنادي للصلاة..فصلوا وبكوا ودعوا وتعانقوا..فلعل هذا اللقاء يكون آخر لقاء بين المجاهدين..و أوصى بعضهم بعضاً..نموت شهداء أو نحيا بكرامة سعداء..نموت أو ننتصر..لن تكون الثالثة..ولم يرجع بعدها أسامة,ليعاهد من جديد..لقد وفى بالعهد والوعد..وانتظرت النجوم في الليلة التالية لتناجي أسامة الحبيب لكنها لم تسمع صوته..بل سمعت صوتاً علوياً يقول: أسامة في الملأ الأعلى..أسامة في الملأ الأعلى..فرح بما آتاه بارئه..(فرحين بما آتاهم ربهم...)...